ما إن بدأت تصريحات تنطلق عن تقارب تركي
مصري، حتى ترك البعض مناقشة هذا المتغير الإقليمي ودلالاته وتبعاته التي قد تغير كثيرا من المعطيات في المنطقة، وانشغلوا بملف أقل ما يقال عنه أنه ليس بالأهمية التي تستدعي الالتفات إليه من الأصل أو على الأقل ليس بأهمية باقي تداعيات المشهد، ألا وهو ملف تأثير هذا التقارب على رافضي الانقلاب والملاحقين منه الذين ساقتهم الظروف اضطرارا لتركيا.
ترك القوم تداعيات هذا التقارب على حصة مصر في غاز شرق المتوسط وعلى الأوضاع في ليبيا، وعلى ملفات أثرها عميق واستراتيجي، ليسلطوا الضوء على أثر ذلك على بضعة آلاف من المصريين في
تركيا.
هل لم يدركوا إلى الآن أن القضاء على بضعة آلاف أو سجنهم لن يحقق استقرارا لسلطة
السيسي الذي سجن وقتل منذ ٢٠١٣ حتى الآن مائة ألف وزيادة؟
ومما يلفت الانتباه تطابق مضمون هذا الخطاب مع مضمون خطاب أنصار نظام الانقلاب وأبواقه الإعلامية وقطاع من المصريين بات المرء يشفق عليهم؛ وربما يلتمس لهم عذرا من كم التزييف لوعيهم نتيجة ما يتعرضون له من تضليل، إما عبر حجب المعلومات الذي مارسه نظام ٣٠ حزيران/ يونيو- ٣ تموز/ يوليو من يومه الأول، حتى باتت الصحافة جريمة (مصر من أكثر الدول خطورة على الصحفيين) وبات كشف الفساد عقوبته السجن (هشام جنينه)، فأصبح من الصعب أن ينجو مواطن مصري من تزييف وعيه ما لم يجاهد لذلك.
أما الأمر المثير للاستنكار حقا أن يسلك ذات المسلك أكاديميون وسياسيون ونشطاء سياسيون يفترض فيهم الوعى، حتى أنه من بين هؤلاء من هم معروفو الانتماء في صف السلطة المستبدة بوضوح. ومما يثير الدهشة أن هناك أيضا من هؤلاء من كانوا يوما بل ومن لا زالوا محسوبين على معسكر رافضي الانقلاب لمجرد كونهم غير مقيمين في مصر.
حتى بات نفر منهم لا هم لهم في كل حادثة إلا مزيد من النيل من المطاردين في بلاد الله تحت زعم نقد الأوضاع، إلا أن سياق الأقوال وتواترها يفصح عن غير ذلك.
لقد قدم هذا الجمع من مقاومي الانقلاب وما زال يقدم من التضحيات ما لا يحتمله بشر، فضلا عن أن الأكاديمي الذي يفعل ذلك لا شك يقع في خطأ منهجي عند تناول مثل هكذا حدث بالتحليل، متغافلا السياق الذي تتم فيه المواجهة مع النظام المصري، وهو سياق مقاومة انقلاب عسكري دموي استهل حكمه بإحدى أكبر المذابح إجراما، وأنه على كل ما يصدر من أخطاء في معسكر مقاومي الانقلاب إلا أنها أخطاء من اختار المسار الصحيح لا من اختار الانقلاب على إرادة الجماهير، وهى كبيرة الكبائر في السياسة.
إن كان قد ثقل على البعض تضحيات وضريبة هذا الموقف الأخلاقي فليفعلوا ما يشاؤون أو يدعوننا لما يرونه صوابا، لكن في السياق الصحيح، وهو سياق أن ثمة انقلابا حدث في ٢٠١٣ وأن هناك مجرما ارتكب مجزرة وأن هناك من قاوموا ذلك وأخفقوا للآن (وهو ما لا ننكره)، أما غسل يد القاتل في كل موقف وتسليط الضوء على أخطاء أو قصور لدى الضحية صاحب الموقف الأخلاقي المحترم؛ فإن ذلك مما يتنافى لا مع الحياد العلمي فقط بل مع المروءة.
ولعل حوارا دار بيني وبين أحد المصريين المؤيدين للسيسي الذي أبدى شماتة بعد بوادر التقارب المصري التركي، إذ قال: "ح يسلموكم امتى"، فقلت له: "القضية دي مش فارقة معانا لأن واحدا مثلي كان المفروض يموت في يوم ٢٥ كانون الثاني/ يناير ٢٠١١ أو يوم ٢٨ كانون الثاني/ يناير، أو يوم فتح السجون أو في رابعة أو ما بعد ذلك في مواقف أخرى".
إن هؤلاء المطاردين يا أيها السادة على ما فيهم من ألم وجراحات قدموا الكثير، نعم أثخنتهم الجراح لكنهم ولله الحمد لم ينحازوا للانقلاب على إرادة الجماهير ولم يفرطوا في دم، وكل ما يقال غير ذلك هو محض افتراء يكذبه الواقع الذي يشهد تضحيات يومية يقدمها كل شاب وشيخ وامرأة وطفل بلسان حاله الذي هو أبلغ من الكلمات؛ حتى وإن تلفّظ بعضهم يوما بمقال لسانه خلاف ذلك على سبيل الشكوى أو التنفيس.