أخبار ثقافية

متى يصبح الديكتاتور أقل غباء؟.. قراءة في رواية "أشد ألم"

أشد ألم رواية
أشد ألم رواية

للروائي البيروفي سانتياغو رونكاغليولو من اسمه نصيب. فكما هو الاسم؛ معقد، لا يُنطق بيسر إلا بعد قراءة متأنية.. كذلك يصعب فهم روايته الطويلة "أشدّ ألمٍ" إلا بقراءة متأنية تفصل بين خيوطها المتداخلة، وتحلل مساراتها متتبعةً تقاطعاتها الكثيرة التي تدفع نحو ذروة الأحداث، بقدر ما تعقدها وترتد بها للماضي أحيانا، ثم للحاضر والمستقبل أحيانا أخرى.

تتقاطع الرواية مع الرواية البوليسية، بقدر ما تنغمس في وحل السياسة في سبعينيات القرن العشرين حيث الديكتاتوريات العسكرية تعصف بأمريكا اللاتينية الشابة، الثائرة والمتطلعة نحو مستقبل أكثر عدلا وإشراقا.

تبدأ الرواية بمقتل خواكين، لكننا نلتقي بالبطل فيليكس تشاكالتانا، الموظف بأرشيف وزارة العدل، الذي أجاد الروائي بناء شخصيته على نحو لا نكاد نسلم من جاذبيتها. فيليكس شاب تقليدي يعيش صراعا مركبا لا يلبث أن يلح عليه في مناسبات كثيرة. صراعه ببساطة يكمن في أنه شاب تقليدي للغاية، رباه أب عسكري صارم، ظل يضربه حتى مسخ شخصيته ثم قُتل، تاركا طفله المنكود فيليكس لتكمل أمه المتزمتة مهمة القضاء على استقلاليته وحريته في التفكير.

فيليكس شاب لكنه يدرك أنه ينقصه الكثير من المهارات والمعارف الاجتماعية والنفسية، مثلما يعاني من مستويات مختلفة من الاضطراب، فهو عبد أسير للقواعد المهنية والأصول الاجتماعية التي عفا عليها الزمن، ملتزم على نحو مضحك بمهام عمله التافهة، يفكر دوما في خط مستقيم ولا يحاول التعمق في تأمل شيء خارج إطار التفكير المألوف، لا أفكار جريئة ولا مغامرات مدهشة.

بدأت الحكاية ببحث فيليكس عن صديقه خواكين كالبو، الذي قتل منذ بداية الأحداث بسبب خطفه طفلا رضيعا مجهولا. وخلال عمل فيليكس في وزارة العدل (في الأرشيف الذي كان تابعا للنيابة العامة) يُكلفه مديره بمعاينة طرد، وحين يذهب لموقع الحدث يكتشف أن الطرد هو جثة صديقه خواكين.
يتوازى ذلك الاكتشاف المرعب مع ورقة صغيرة، تعتبر بلاغا غير مكتمل عن طفل (الطفل المخطوف) لديه مشكلة مع الجوازات، وبلا معلومات تقريبا، لا يجد فيليكس إلا بيانات قليلة مرتبطة بإدارة الجوازات. ومع جريان الأحداث، تتضفر السياسة مع الاقتصاد، وكرة القدم، وقصص الغرام، وظلام المعتقلات والحديد والدم... ليقدم لنا رونكاغليولو صورة مركبة للحياة بيرو في السبعينيات، ورغم أنه من مواليد سنة 1975، فقد أجاد رسم عالمه الروائي بدقة في تلك الحقبة.

تتجمع الخيوط؛ ففيليكس كان يبحث عن صديقه ليستشيره في كيفية عرض علاقة حب على صديقته سيسيليا، التي تعمل موظفة في قسم الإعلانات بمكتب صحيفة محلية، ففيليكس يعاني من العجز عن التعبير عن نفسه بوضوح، مثلما يرتبك أثناء المواقف الانفعالية؛ وهكذا ينهمك في البحث عن مدخل لعرض حبه على سيسيليا، وأيضا يتورط في البحث عن تفاصيل قتل صديقه دون قصد، وذلك بسبب داء لم يستطع التخلص منه: داء اتباع القواعد والالتزام بالسلوك المهني والأخلاقي دائما.

فقد عثر على الورقة الصغيرة ملقاة على مكتبه، فظن أن زميلا له تركها، لكن كان يجب اتخاذ إجراء قانوني بشأنها، وهو مراسلة إدارة الجوازات وإخبارها بتفاصيل ذلك البلاغ الصغير غير المكتمل، لتستوفي الجوازات البيانات الناقصة، لكن، ودون أن يتخيل، تورط في قاع الصراع السياسي بين السلطات العسكرية واليسار الثوري.

نكتشف مع توالي الأحداث أن الاسم المتروك في البلاغ الصغير غير المستوفَى، هو اسم حركي لخواكين نفسه، الذي كان أستاذا بالجامعة وعضوا مهما في الجماعات اليسارية بالجامعات، وكان يؤويهم ويساعدهم سرا، حتى وقع بيد المخابرات فتم تجنيده ضد رفاقه، وكان الاسم المتروك في البلاغ هو اسمه الحركي، مما أربك الاستخبارات، التي لم يعلم رئيسها كارمونا أن هذا الاسم لا يمكن تسريبه لأحد، فما هذا البلاغ الغريب؟

 

وبذهابه للتحقيق في مكتب الضابط كارمونا، تبدأ علاقة غريبة بين فيليكس والأجهزة الأمنية، فلديه معلومات ممتازة عن خواكين صديقه، الذي لم يكن يعلم شيئا عن عمله السياسي ولا تخابره مع الأجهزة الأمنية، كما تتوصل إليه سوسانا عشيقة خواكين السرية، التي نكتشف أنها زوجة كارمونا، التي لا تحبه، لكنها تعرفت عن طريقه على خواكين، الأكاديمي الشاب الذي سحرها بينما يعمل تحت إمرة زوجها.

وتتوالى المفارقات، حيث يمسك فيليكس، موظف الأرشيف الخبير، بخيوط المعلومات المتاحة في البيانات الرسمية ويتتبعها، وبذلك يصل إلى طلاب خواكين في الجامعة، مما يقوده إلى مزيد من الخيوط، كما يعتمد عليه الضابط كارمونا لأنه صديق خواكين الذي يستطيع تتبع علاقاته، في حين تسعى سوسانا إلى فيليكس لتسأل عن عشيقها الذي اختفى فجأة دون أن تعلم بقتله، وتتوجه إلى فيليكس تحديدا لأن خواكين أعرب لها عن ثقته في طيبة قلبه.

ومع أن فيليكس يقدس كلام الصحف ونشرات التلفاز وتصريحات المسؤولين، وبالتالي يجتهد في مساعدة كارمونا في القبض على شباب الشيوعيين، لكنه خلال تتبع بعض الشباب يرسله كارمونا لزيارة معسكرات التعذيب الرهيبة، حيث الشباب المعصوب العينين يتعرض لأنواع من عمليات التعذيب المروعة، وحيث ينتزع المواليد من أحضان الأمهات المعتقلات.. ومن هنا ينجلي السر؛ فقد قتل خواكين بسبب جلبه طفلا ولدتْه امرأة من بين المعتقلين البيروفيين في الأرجنتين التي يشرف ضباطها على تعذيبهم، وقد جلب الطفل لحساب الضابط كارمونا الذي فكر في محاولة إصلاح علاقته بزوجته، التي لم تنجب أطفالا، ففكر في إهدائها طفلا مخطوفا!

وخلال الأحداث تقول الرواية الكثير عن الحياة تحت سقف الديكتاتوريات العسكرية؛ كيف يعيش الناس وكيف يفكرون، وكيف يمكث الجميع أمام مبارايات كونديال الأرجنتين الذي فازت به في فضيحة كروية هائلة، بينما يُقتل الشباب الحر ويُعذب في المعتقلات السرية، دون أن ينسى تسليط الضوء على مشكلات هذه التنظيمات اليسارية وفساد بعض قادتها..

كما اعتمد الكاتب على تقنية ترتيب الأحداث وفقا لجدول مبارايات المونديال مع رصد استحواذ المونديال على قلوب الناس وعقولهم.

تبدو الديكتاتوريات العسكرية شديدة الشبه ببعضها، بل يبدو أنها لا تتطور ولا تواكب الزمن، بحيث تظل الديكتاتوريات العسكرية الحديثة بنفس غباء القديمة، ويظل الشباب الحالم بالحرية هو من يدفع الثمن الفادح، انتظارا لأمل قد لا يتحقق في حياتهم.

في نهاية الرواية يمكننا أن نتساءل: إذا كان ذلك حال الديكتاتوريات التي عاشت في السبعينيات، لماذا تبدو الديكتاتوريات العسكرية المعاصرة بذات القدر من الغباء؟

أما سانتياغو رونكاغليولو فهو روائي ومترجم بيروفي حاز عددا من الجوائز الأدبية، أهمها جائزة ألفاغوارا عام 2006 عن رواية "أبريل أحمر". وصدرت روايته "أشد ألم" عام 2014 ووضعته حينها صحيفة «وول ستريت جورنال» ضمن ستة مؤلفين يسيرون على خطى جابريل غارسيا ماركيز. وهي الرواية الأولى التي ترجمت له بالعربية.

التعليقات (2)
sandokan
الجمعة، 26-03-2021 01:38 م
( انتصر في المرتين ، و من ثم أصبح للإمبراطور ( الميجي ) مطلق الصلاحيات في البلد ، و ألغى منصب ( الشوغن ) الذي كان ينافسه ، و كان يلعب الإمبراطور الفعلي للبلاد بدعم الإقطاعيين و قهرهم لأبناء الشعب ) عفواً عن الخطاء الغير مقصود في المقديمة .
sandokan
الخميس، 25-03-2021 09:11 م
^^ الإمبراطور المستنير ^^ انتصر في المرتين ، و من ثم أصبح للإمبراطور ( الميجي ) مطلق الصلاحيات في البلد بدعم الإقطاعيين و قهرهم لأبناء الشعب ، و من ثم تواكبت رغبة ( الميجي ) في التحديث مع إطلاق حرية الشعب الياباني ، و استعادته لإنسانيته ، التي كانت مهدرة . و تفجرت إبداعات اليابانين في كل المجالات : الزراعة ، و الصناعة ، و التسليح ، و الصحة ، و البناء ، و كان التعليم على رأس هذه القائمة بالطبع . استطاعت سلالة الميجي المستنيرة أن تحدّث اليابان في وقت قياسي ، لم يتجاوز أربعة عقود من حكمها ، اليابان خلالها رفاهية مشهودة ـ و إن اتسمت بمظهر غربي ـ و هو ما أدى فيما بعد إلى ردة فعل معاكسة ، فتعالت النداأت بالعودة إلى التقاليد اليابانية الأصيلة ، وراحت موجة التمسك بالتقاليد تجابه موجة التهافت على المظاهر الغربية ، و هو صراع لا يزال حياً في اليابان حتى اليوم ، لكنه صراع هوية لم يقض على منجزين أساسيين حققتهما اليابان و هما : الديمقراطية ، و التفوق العلمي و التقني ، ذو المردود الاقتصادي الذي ينافس أقوى اقتصادات العالم . غني عن القول ، إن اليابان نتجة الصعود المتسارع و الجبار لحركة التحديث ، أفرزت ـ بين ما أفرزت ـ جيشاً قوياً أغراها بالتورط في حرب مدمرة و مكلفة ، لكن هذه الحروب جعلت اليابان الجديدة تستقر على يقين إصلاحي جديد ، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية ، فتتبذ مقولة التحديث من أجل العسكر ، و تتبنى بشكل قاطع مقولة التحديث من أجل الرفاه . و هو ما يعكس نفسه فيما يمكن تسميته بدولة الرعاية و إبداع الإنسان الذي يتمتع بقدر وافر من الحرية . و هذه المرحلة الأخيرة يسميها البعض مرحلة النهضة اليابانية الثانية ، لكنها دون شك قد قامت على إيجابيات النهضة الأولى و تجاوزت سلبياتها بإصرار اليابان على أن تظل ـ حتى الآن ـ دولة مسالمة و معادية للحرب ، بشكل يوشك أن يكون مطلقاً . في كتاب عنوانه ( اختراع اليابان ) ، من تأليف ( أيان بوروما ) و هو كاتب إنجليزي أمضى سنوات عديدة في اليابان ، و كتب عنها عدة كتب ـ يؤرخ للنهضة اليابانية بقصة غريبة أراد أن يوحي بأن النهضة اليابانية كانت اخترعاً غربياً ، و قد تكون للغرب تأثيرات واضحة في تجربة الإصلاح و النهوض اليابانيين ، لكن عندما يتفوق الاختراع على مخترعه ، فهذا مؤشر على أن الاختراع اخترع نفسه في حقيقة الأمر ، و إن استخدام معطيات البداية ممن يزعم أنه المخترع .