من تداعيات ثورة يناير وتوابعها من انقلاب عسكري وما ترتب عليه؛ استقطاب مزق وحدة الوطن وكيانه ومصالحه. فالاستقطاب ليس مجرد انحياز قطاعات من الشعب إلى مربع
الثورة المقسم أصلا أو إلى مربع الثورة المضادة الذي أدى دوره وانتهي، لكنه حالة بائسة قسمت
مصر الدولة إلى دويلات، والشعب إلى شعوب، والرب إلى أرباب، لدرجة غنى فيها مطرب سيسي مصر "احنا شعب وهمه شعب لينا رب وليهم رب".
حالة جعلت الشماتة في حوادث وأحداث قطاعات وشخصيات أمرا واقعا ومشاعا؛ فقد المصريون فيها قوة الترابط والأخوة الوطنية والقيم الإنسانية، وحلت محلها الكراهية والشماتة في الموت والسجن والمرض، وهي قيم لم تكن موجودة في أسوأ نظم الحكم في العصر الحديث.. حالة تغيرت فيها المشاعر والعقائد، واختلت موازين الحكم فيمن هو العدو ومن هو الصديق.
يموت أحدهم أو يمرض فتجد عجبا؛ فريق وكأن معه مفاتيح الرحمة والجنة والنار يُدخل من يشاء ويمنع من يريد، وفريق آخر لا يملك إلا السباب والشماته وسوء الخلق والكراهية للأحياء والأموات معا.
حالة اختبرت فيها الأفكار والعقائد والأخلاق والسلوكيات والأعراف والتقاليد فسقطت جميعا بامتياز إلى حين، وهو ما أثبت أن مؤسسات البناء والتكوين الرسمية والأهلية كانت كسراب بقيعه؛ وما زالت سرابا لا قيمة لها ولا عائد وطنيا ولا تربويا.
أجواء جعلت دويلات مصر وشعوبها تختزل هذه الدولة الكبيرة في شخص سلطة الانقلاب تارة أو في شخوص من ناصروه وأيدوه، فاعتبروا كل المصائب والكوارث والخسائر التي تعيشها الدولة وغالبية الشعب هي خسائر لسلطة الانقلاب وتأكيدا لفشله.
تزداد الأسعار فيقول البعض "خليهم يشربوا"، وتكون الحوادث والأزمات فيقول بعضهم فليذوقوا بما كسبت أيديهم.. مياه النيل في خطر فتكون الشماتة في سيسي الشؤم، وكأنه هو من سيعطش ويهلك. والحقيقة أن الشامت أول المضاربين والهالكين، فنحن في دولة لا يخسر حكامها حتى لو سقط حكمهم.
ما يجهله هؤلاء جميعا أن الأوطان ليست عقارات ولا منشآت يسهل ترميمها وإصلاحها من الشروخ والتصدعات، لكنها كالجبال الشامخة الراسخة إذا هزتها الزلازل تحتاج إلى عقود وربما إلى قرون لتعود سيرتها الأولى وربما لا تعود.
نظام الحكم المصري مهما كانت إمكاناته القمعية زائل لا محالة، وقطاعات المعارضة محدودة الفكر والإمكانات لن تدوم بل هي إلى الزوال والتآكل، ربما أسرع من النظام.
وتبقى مصر أرضا وشعبا وتاريخا وسمعة وثروات هي الباقي والأهم، مصر بخلاصة أبنائها أصحاب الفهم الراقي والوعي الباقي في مختلف المربعات ومنها الفكرية والعقدية، وحتى الأفكار والمعتقدات تبقى رؤية خاصة لأصحابها ويبقى الوطن ليسع الجميع.