سياسة الحرب وحرب السياسة
عندما تفشل الدبلوماسية، أو بمعنى آخر عندما تصل السياسة إلى طريق مسدود، تكون الحرب وسيلة لفتح آفاق جديدة للسياسة بمعطيات غير تلك التي فشلت من خلالها الدبلوماسية أو السياسة، وإن كانت هذه القاعدة لا تمثل السبب الوحيد للحروب، إلا أن الوقائع غالبا ما تؤكد هذه الفكرة عن
الحروب وأسبابها.
لكن منظري السياسة يضعون أسبابا أخرى للحروب، فهناك من يرى أن الطبيعة البشرية في بعض الأحيان هي وحدها الدافع أو السبب للحرب، وقد تتطور هذه الطبيعة البشرية لتشكل نظاما للحكم، فيصبح هذا النظام محرك لغريزة العنف لدى المجتمع الذي يحكمه، ومن ثم يدفع نحو تفريغ هذه الطاقة في تحرك عسكري باتجاه دولة جارة. وقد يتبنى النظام الحاكم فكرا أو أيديولوجية ويرى النظام أن هذه الأيديولوجية يجب أن تسود لأن ما سواها فاسد ويجب اقتلاعه. فمن العلماء من يحمل الأيديولوجية الفاشية مثلا سبب الحرب العالمية الثانية، كما أن الوضع الاقتصادي سواء للبلد المعتدي أو المعتدى عليه دافع في حد ذاته، فقد تندلع الحرب طمعا في موارد الجار، أو رغبة في تسويق فائض اقتصادي يشكل أزمة على النظام الحاكم في الداخل.
كما أن عدم انتظام مدارات النظام العالمي أدى إلى حالة من التوجس أو حتى ميول للحرب كدافع من الدوافع حماية الذات في عالم تحكمه القوة، وغريزة البقاء حينها تدفع الدول إلى الحرب من أجل إثبات الذات ودفع فكرة غزوها بإظهار القوة. كما أن فائض القوة قد يدفع في كثير من الأحيان إلى تفريغ تلك القوة وتصديرها للخارج كنوع من التوازن العسكري أو حتى المجتمعي، لذا فنجد أن حرب السياسة قد تنتهي بالنتيجة إلى سلوك عنيف يستخدم فيه السلاح لحل أزمة بين جارتين، وبالنتيجة تتحول الحرب إلى سياسة ترتب فيها الأوراق ويطاح فيها بالأنظمة، سواء رمزيا بإفقاد الشعب الثقة في النظام الحاكم، أو فعليا من خلال تغيير النظام بالقوة وتولية نظام يوالي الدولة المنتصرة.
إطالة أمد الحروب وأهدافها
شهد القرنان الماضي والجاري عدة حروب بعد الحرب العالمية الثانية، كانت بمثابة توابع لزلزال الحرب الكونية وما تشكل بعدها من نظام عالمي جديد ثنائي القطبية؛ عاش العالم حقبة منها في حرب باردة قبل أن تسخن هذه الحرب وتتحول إلى تسونامي تتساقط فيه الأنظمة برغبة الشعوب ودفع من المخابرات الغربية على الأرجح، فلم يقبل قطبا العالم حينها قسمة
النفوذ وسعى الغرب إلى تحول ثنائية القطبية إلى الهيمنة من خلال قطب واحد رأى في نفسه الأجدر على تسيير عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وكانت البوسنة والهرسك طليعة الفكرة، فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك الاتحاد اليوغسلافي تطلعت المكونات العرقية إلى الانفكاك من تحكم دام عقودا من الزمن تخللته حالة من القهر. لكن بدلا من أن يجد السكان يد العون في خروج آمن، وجدوا غض طرف عجيب من المجتمع الدولي الذي يهيمن عليه بطبيعة الحال المعسكر الغربي، ولأن المطالب يخالف العقيدة ولأن زرع كيان مغاير في وسط مختلف، كانت الخطة هي الإبقاء على حالة الحرب أطول فترة ممكنة مع حل يصعب معه ميلاد الكيان المأمول من قبل الشعب المقهور.
وإذا كانت البوسنة لا تتمتع بجغرافية مميزة، إلا أن محيطها لا يقبل بأي حال من الأحوال وجود ذلك المختلف بينهم، وبالنتيجة مزيد من الدمار في البنية التحتية والسطحية وعجز كامل لمؤسسات يمكن البناء عليها من أجل دولة ناهضة، لكن الأمر يختلف كثيرا في الصومال صاحب الموقع الاستراتيجي المهم لدول الخليج النفطية، ومن ثم للدول المستفيدة من ذلك النفط وتفرض حمايتها عليه. فالصومال يشرف على خليج عدن، ويعد المدخل الجنوبي للبحر الأحمر مع عدن اليمينة، ويتحكم بالتالي بالبحر الأحمر وخليج عدن ومن ثم المحيط الهندي، لذا فهو المدخل الأهم لطرق التجارة العالمية.
وعليه، فإن موانئ الصومال غنيمة كبيرة يسعى كثيرون إلى الفوز بها، ولما كان الصومال يزخر بالنفط والغاز، فإن إبقاءه مضطربا يسهّل كثيرا شراء ذلك النفط. فوجود حكومة مركزية يجعل الأمر أكثر صعوبة مما لو كان الشراء من زعماء مجموعات مسلحة أو حتى حكومات محلية غير معترف بها ولا تنسق فيما بينها. وتبقى حالة الاضطراب الأمني وما ينتج عنه من تفجيرات ودمار فرصة للدول وشركاتها الطامحة في إيجاد مساحات استثمار أو فرص تشغيل لمواطنيها؛ في دولة تحلم بحياة مستقرة لا يمكن أن تكون إلا من خلال توفير البنية التحتية لبناء دولة الرفاه المأمولة.
وغير بعيد عن الصومال، ليس جغرافيا، وإنما من حيث الحالة والمآل، تقف سوريا صاحبة السنوات العشر من الحرب الأهلية. فالحالة السورية متميزة، والموانئ لا تمثل الكثير لدى الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية، باستثناء روسيا وإيران، لكن جوارها للكيان الإسرئيلي جعلها بين فكي الأطماع والمخاوف.. مخاوف من وجود نظام يعيد ترتيب المنطقة بعد أن استقرت كثيرا لتل أبيب، وأطماع في الموانئ والنفط والغاز والسوق متوسط الكثافة كثيف الاستهلاك. فكانت المعطيات توصل لنتيجة ألا تنتهي الحرب في سوريا، رغم تقاسم الفاعلين ضمنيا مساحات النفوذ، وعلى الرغم ايضا من توافق المجتمع الدولي على الحل السياسي في سوريا.
لكن تبقى غنيمة ما بعد الحرب لم يتم التوافق عليها، فالروس والإيرانيون ومن ثم الأتراك متواجدون على الأرض، وفرنسا ترى في وجودها التاريخي حقا في التواجد مجددا في سوريا ما بعد الأزمة، وأمريكا وألمانيا لن تتركا الغاز والنفط السوري يمر من غير نصيب يرضيهم، وهو ما يشبه كثيرا حالة ليبيا، وإن كانت الأخيرة قد حلت أزمته بانتخاب مجلس رئاسي وتسمية حكومة لم تحظ بتوافق كامل لكنها مرضي عنها دوليا إلى حد كبير، مع ذلك فإن من توافق على إنهاء أزمة ليبيا ينتظر وعودا بثمن التهدئة. فالنفط الليبي المهم وغازها تحت أعين من توافق من أجل استقرار الأوضاع، فالثمن حاضر وعلى من استلم زمام الأمور أن يوفي وإلا فالخطة البديلة حاضرة.
مشروع مارشال وخطته
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وضع الجنرال جورج مارشال، رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي أثناء الحرب ووزير خارجيتها فيما بعد، مشروعا اقتصاديا لإعادة تعمير أوروبا، أعلنه في خطاب له أمام جامعة هارفارد لإدارة منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي التي أنشئت من أجل إعادة إعمار أوروبا الغربية بعد الحرب، والتي رصد لها ميزانية قدرت بحوالي 13 مليار دولار أمريكي؛ كلها قروض أمريكية لأوروبا.
كان المشروع بمثابة حائط صد ضد الشيوعية، لكنه أيضا كان بمثابة اختراق لا محدود لمنظومة السياسة الأوروبية بنفوذ لا محدود لواشنطن، ذلك النفوذ الذي رفضه الاتحاد السوفييتي. فقد عرض المشروع ذاته على الاتحاد السوفييتي وحلفائه، لكنهم فطنوا لما وراءه من سيطرة حتمية لأمريكا على الاقتصادات الشيوعية، وهو دليل لا يقبل الجدل في ما كان يهدف له مارشال بخطته، الخطة التي لم تنته صلاحياتها منذ 1947 وحتى يوم الناس هذا.
فالصراعات التي عرضت خطة مارشال إنهاءها منذ سنوات لم تنته، وذلك لأن الفاعل الآن ليس مارشال وحده. فمن كان زبونا لمارشال في 1947 أصبح الآن تاجرا وعنده من البضائع والمشاريع ما يمكن بيعه، كما أن له من أوراق ضغط تمكنه من دخول الصفقة والوقوف في بورصة تداول مشروعات الإعمار. فسوريا وليبيا ومن قبلها العراق والصومال، واليمن الذي يراد له أن ينهي أزماته خلال هذا العام بعد سبع سنوات من الصراع الدامي الذي خلف شبه دولة.. كلها مشروعات قيد البحث، تعطلها حروب خفية بين الدول الطامحة والطامعة في فرص ما بعد الحرب، لتدفع شعوبنا في النهاية ثمنا باهظا لتلك الحروب الخفية التي إن حُسمت حُسم معها الصراع وحقنت بها الدماء.