ذكرني أحدهم بالآخرين!
أما أحدهما فهو الرئيس
التونسي قيس سعيد، وقد بدا للجميع شخصاً غريب الأطوار، من خلال خطابه الذي يبدو منتمياً إلى العصور القديمة، ويمثل دهشة الناس، وكأنهم يشاهدون الدراما التاريخية التي يقوم ببطولتها ممثلون عرب، فيبالغون في نطق الكلمات باللغة الفصحى، فيرهقون أنفسهم قبل أن يثقلوا على آذان من يسمعهم!
ويسعى الرئيس قيس سعيد أن يعيش في الأزمنة السحيقة، عندما كانت الرسائل تكتب بخط اليد، وترسل بالحمام الزاجل، وتأخد شكلاً خطابياً وبعبارات خشبية تجاوزتها لغة الكتابة في العصر الحديث، الذي لم يصل الرجل إليه بعد!
لقد كان الحاكم، أو الخليفة، أو الإمبراطور، في هذه العصور يملي خطابه، لكن الجديد أن صاحبنا هو الكاتب، لأنه معجب بخطه، ولأول مرة نكتشف أن جمال الخط قد يؤدي إلى نفس نتيجة سوء الخط، من عدم القدرة على فكه وجعله صالحاً للقراءة!
وقد شاهدناه وهو يخاطب رئيس الديوان بذات اللغة المتقعرة،التي يفتقد معها السلاسة المطلوبة في الإلقاء، وهو يأمره بأن يذهب بكتابه هذا.. "ولا يعودنّ".. بينما الرجل في حالة امتثال كامل لهذه اللحظة التي أعادته للخلف لعدة قرون. ولا أدري ماذا كان يدور بداخله وهو في هذه الحالة، وبماذا استقبله أهله عقب عودته إليهم من هذه المهمة التاريخية، لظني أنه لم يكن في حالة توحد مع الرئيس، وهو يوشك أن يقول له: اغرب عن وجهي وإلا ضربتك بالدرة على قفاك!
ثم شاهدنا كتابه الأخير، المكتوب بخط يده أيضاً، وقد تزاحمت كلماته وتداخلت سطوره، على نحو يدفعنا للشفقة على حال المرسل إليه. ونكاد نتخيله وهو يضع على عينيه نظارة القراءة ثم يرفعها، ثم يضعها ليرفعها، وقد يستعين بمساعديه لفك هذه الطلاسم التي تبدت مع روعة الخط، وكأنه "حجاب" من النوع الذي كان يكتبه المعالجون في المجتمعات التقليدية، ليعلقه المرضى أو المسحورون في أعناقهم بعد تغليفه بقطعة قماش. ويبدو رموزا عصية على القراءة، مع أنه مكتوب في حالة الرئيس قيس سعيد بشكل جميل، لكن النتيجة واحدة من حيث العجز عن فك رموزه، وكأننا بحاجة لشامبليون الذي فك حجر رشيد!
لعل الكاتب للخطاب قد استغرق وقتاً في كتابته، وليس من الطبيعي أن يكون لدى الرئيس فراغاً يتحداه بما كتب، وقد تبين أن اهتمامه بالشكل، وبالعبارات المتيبسة، كان على حساب الموضوع. فقد كان الكتاب الموجه لرئيس البرلمان راشد الغنوشي، حول طلب سحب التعديلات على قانون المحكمة الدستورية، فإذا به يطلب سحب القانون نفسه الذي وضع في سنة 2015، قبل تدارك الموقف، بوصول حامل الكتاب إلى الغنوشي، وربما قبل هذا بقليل!
ونكتشف أن الكتاب قد بدأ بعبارات قديمة تفتقد للياقة، مثل "السلام علينا وعليكم مثل الذي ألقينا". فما بال الرجل يلقي السلام على نفسه بنفسه؟ وما له يتعامل مع شخص المرسل إليه على أنه على هامش الموضوع مع أنه أصله، فيصبح نصيبه من السلام، هو بالتبعية (وعليكم مثل الذي ألقينا)، وقد أنهاه بـ"السلام على من اتبع الهدى"، كما لو كان كتاباً إلى زعيم الأحباش يعرض عليه فيه أن "أسلم يأتيك الله أجرك مرتين"؟ وما دمنا لسنا في معرض عرض الإسلام على الشيخ الغنوشي، فهل يقصد ذاته بذاته بأنه "الهدى" الذي يستحق من يتبعه السلام ؟!
القادم من المجهول:
ومع كل مشهد من هذه الدراما البائسة، أجد الأشقاء في تونس تتراوح مواقفهم ما بين الدهشة والسؤال من الرجل، وقد بدا لهم أنه جاء من المجهول، مع أنهم كانوا يعقدون عليه آمالا عريضة، ووجدتني أسأل: هل يعقل أن يكون اكتشافاً لهذا الحد، مع أن من اقترب منه لا بد أن يكون قد وقف على هذه الحالة، وهو لم يكن يعيش في كهف بأحد جبال تونس وقد نزل من هناك ليتقدم بطلب ترشيحه للانتخابات؟!
تمنيت لو أتيحت لي فرصة لتقصي أثر الرجل، في مرحلة النشأة والتكوين، وسؤال زملاء الدراسة وجيران الحضر عن طبيعته طفلا، فصبياً، فشاباً، فكهلا، وسؤال تلاميذه في الجامعة، وقد قيل إنهم من قاموا بالدعاية له. وذكرني بحالتي وأنا أطلب لفترة طويلة في
مصر التعريف برئيس مجلس الشورى بعد الثورة، الدكتور أحمد فهمي، ومن أي محافظة مصرية ينتمي، وكتبت على صفحتي على "فيسبوك"، لكن لم أتلق رداً، مع أنه كان يعمل أستاذاً جامعياً بجامعة الزقازيق، لكن لم يحدث أن تلقيت إجابة على سؤالي المتكرر، إلا بعد فترة طويلة من طرح السؤال، ورد أحد الزملاء بأنه من محافظة المنوفية، لكنه استقر مبكراً في الزقازيق حيث مقر عمله، ومسقط رأس أصهاره. وقد سئل جحا عن بلده؟ فأجاب: التي منها زوجتي!
ولأنه بدا لي وقد جاء من المجهول، فقد اعتقدت في البداية أنه ليس من الإخوان، ولكن أسرع به نسبه، فهو صهر رئيس حزب الحرية والعدالة، ورئيس الجمهورية بعد ذلك الدكتور محمد مرسي. إذ كيف يكون إخوانياً لدرجة تولي هذا الموقع الرفيع ومع ذلك لا نعرفه، لولا أن أحد أعضاء مجلس الشورى أكد لي أنه عضو في الجماعة، وقد أخبره بذلك قائد الحرس بالمجلس، لأنه من قام بتنفيذ أمر اعتقاله في سابقة اعتقاله الوحيدة، ولأسباب غير مفهومة فقد تذكره وعينه في المجلس مسؤولاً عن أمنه!
أهمية تقصي الأثر لكل من قيس سعيد وأحمد فهمي يمكن بها الوقوف على ما إذا كان تطور طبيعي للحالة، أم أننا أمام تحول للشخصية، مرتبط بهذه النقلة المفاجئة من مرحلة إلى مرحلة وفق نظرية "طقس العبور" لعالم الأنثروبولوجيا "أرنولد فان قينيب"، والتي أراها جلية في شخص حمزة البسيوني، الذي شغل مدير السجن الحربي في العصر الناصري، واشتهر بالجلاد والسفاح، نظراً للجرأة على تعذيب المعتقلين، ومن عاصروه رووا قصصاً عن هذه الشخصية الفاقدة لأي ذرة من الإنسانية، يشيب لهولها الولدان!
في مذكراته كتب الفيلسوف عبد الرحمن بدوي، أنه كان يعرف حمزة البسيوني الذي تخرج في كلية الحقوق في سنة تخرجه هو في كلية الآداب، وعرفه وديعاً، هادئ الطبع خجولاً، بل رقيق الحاشية ساجي الضمير، ويتساءل: كيف تحول إلى وحش كاسر ولوع بالتعذيب والتفنن في أساليبه؟!
فكيف تحول قيس سعيد إلى هذه الشخصية المحنطة، فهل يعقل أنه كان ذلك ومع هذا تحمس له تلاميذه في الجامعة؟!
يا له من تحقيق صحفي لن تنقصه الإثارة لمن يقوم به!
سطور أخيرة:
•الخبر الأبرز: وزيرا الإنتاج الحربي والزراعة يفتتحان مركزاً لتجميع الألبان بالمنيا!
وبهذا عرفنا سر ضرب شركة جهينة.. يدمرون شركة قائمة.. ومستقرة.. وناجحة، لم يشكُ من منتجاتها أحد.. من أجل مشروعاتهم!
إن مشروع الوقت الآن هو تأمين أعالي النيل، وليس منافسة صفوان ثابت في سبوبة الألبان!
•وزير الري لعمرو أديب: نقول للإثيوبيين في المفاوضات سيحدث جفاف في مصر، فيقولون ساعتها نتكلم!
ثم يريدون منا أن نلتف خلف هذا الانبطاح، على أساس أن الوطنية تستلزم أن نلتف خلف الدولة إزاء هذه الأزمة.. أهذه هي الدولة؟!
twitter.com/selimazouz1