آراء ثقافية

عندما كشفت الكمامة عن وجه الشيطان

كمامة طبية- جيتي
كمامة طبية- جيتي
"هل تعتقدون بأنكم الله؟" توجه سيدة أمريكية سؤالها إلى مجموعة من المسؤولين في إحدى جلسات الاستماع لسن قانون فرض الكمامة في ولاية فلوريدا الأمريكية. ثم تكمل، "لقد اخترت الإيمان على الخوف كل يوم. أنتم لستم الله، وبما أن الكمامات مؤذية، وبما أن هناك مخاطرة، يجب أن نمتلك الخيار. أنتم تصادرون حرياتنا وتدوسون على حقوقنا الدستورية بأوامركم الديكتاتورية الشيوعية. وإذا قمتم بالتصويت لصالح فرض الكمامات في أماكن العمل والمدارس والمتاجر، فسيكون موت الكثيرين على يديكم".

لم تكن هذه السيدة الوحيدة التي عبرت عن الحزن والأسى على ما تراه تعدّيا على قدر الله وخطته للبشرية. فهناك مجموعة كبيرة من الأمريكيين الذين عبروا عن أسفهم وغضبهم على ما أسموه "قوانين الشيطان" المنافية للقوانين الإلهية. 

ترفض هذه الفئة الكمامة لأسباب منها ثقافية ودينية، وبعضها لحسابات سياسية. وبالرغم من منطقية أو لامنطقية أسبابهم، إلا أن الكمامة استطاعت أن تهز صورتنا عن أنفسنا وعن العالم عندما نجحت في الكشف عن وجه العالم القبيح. الوجه الشيطاني الذي صنعه شبح المرض وضعف الأجهزة الحكومية والصحية وفسادها، وأحياناً استعلاء البعض وأنانيتهم المفرطة. لقد عرفتنا الكمامة على أنفسنا بعد أن أصبحت اختباراً لقيمنا ومسؤوليتنا تجاه الآخرين.

حرب الكمامات

في أحد أيام الجمعة وقبل عام تحديداً، عُثر على جثة حارس أمن في متجر بولاية ميشيغان الأمريكية. قالت زوجة الحارس لصحيفة نيويورك تايمز إن الحادثة كانت بسبب رفض أحد العملاء ارتداء الكمامة، وهو أمر مطلوب في ولاية ميشيغان. وفي يوم جمعة آخر، بولاية أوكلاهوما، سبب إعلان بفرض تغطية الوجه بتوجيه كومة من الإساءات اللفظية وتهديد باستخدام السلاح، ما دفع المسؤولين إلى تعديله بسرعة، لتصبح الكمامة غير إلزامية.

توالت حوادث العنف في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحول المعارضون للكمامة إلى كتلة غاضبة تهاجم المحلات التجارية وتصرخ في وجه المارة ممن يرتدون الكمامات، ليتحول المشهد إلى مأساة حقيقية. يعتبر كثير من الأمريكيين البيض المنتمين غالباً إلى الحزب الجمهوري، أن إلزامهم بارتداء الكمامة يسلب منهم حريتهم الشخصية، ويهدف إلى فرض سيطرة الحكومة على الشعب ولا علاقة له بالوقاية من المرض. 

ولا شك أن الكمامة تتحول مع الوقت إلى أداة في يد السلطة لضبط الشعوب وتقديمها كحل وهمي أو مخرج لإخفاء تقصيرها في التصدي للوباء. وهذا ما رأيناه في كثير من الدول التي تعاملت مع الكمامة كسلاح وخط دفاع أول لمواجهة كورونا، في الوقت الذي فشلت فيه أنظمتها الصحية في توفير الخدمات المناسبة واستيعاب الأزمة. ولكن هذه الحقيقة لا تنفي المفارقة الحاصلة في حرب الكمامات التي جعلت من الضحية مجرماً، ومن المجرم ضحية!

شيطنة الآخر


ورغم أن علماء الطب والمنظمات الصحية لم يجمعوا على نجاعة الكمامة في التصدي لكورونا، إلا أن للكمامة دورا اجتماعيا في تأكيدها على انتماء الفرد للجماعة وقدرته على التضحية وتجاوز ذاته لأجلها. ولكن يبدو أن الكمامة قد فشلت في توحيد الشعوب في مواجهة أزمة عالمية. بل أنتجت ظواهر عنصرية في دول ترى في الوجه المكشوف معياراً للمواطن الصالح! 

ومن سخرية القدر، أن نرى رئيس فرنسا يغطي نصف وجهه ويفرض غرامة مالية على من يخرج دون كمامة، في الوقت الذي لا يزال يصر فيه على قانون يجرم ارتداء النقاب في الأماكن العامة. ومن المضحك أن هذا القانون قد استغله بعض الفرنسيين الذين انتحلوا صفة رجال شرطة وألزموا طلاباً صينيين بدفع غرامات لارتدائهم الكمامة استناداً إلى قانون حظر ارتداء النقاب! 

سواء كانوا منقبات، أو صينيين وآسيويين، تجتمع أقليات كثيرة في وصمة "الآخر" ذي الوجه المختلف والغريب، ليكون الوجه علامة فارقة لتصنيف الآخرين ومن ثم شيطنتهم!

عتبة الوجه 

لا ترى كثيرا من الثقافات والأديان الوجه كعضو محايد للإنسان، بل كواجهة لحقيقته ورمزاً لكينونته. يعتبر الوجه في بعض الفلسفات الغربية مركز الإنسان وجوهره، وله قيمة اجتماعية كما يعتقد عالم الاجتماع الكندي إيرفينغ غوفمان، يؤدي من خلاله الفرد دوره بتفاعله وجهاً لوجه مع جماعة تتفق فيما بينها على هذا الدور. تشكل مجموعة الأدوار هذه نظاماً تعبيرياً ينظم سير تفاعل المجتمع ويضبط علاقته بالسلطة. 

وقد أخذ الوجه منحى متجاوزا فكان عتبة الإنسان نحو الإلهي أو المتعالي، كما قال الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس "كلمة الإله تتحدث عبر مجد الوجه". ولكن اليوم، في الوقت الذي يجبرنا فيه فيروس قاتل على تكميم وجوهنا، وعندما لا تتفق البشرية على هذا الخيار، فإن هذه الفلسفة تتعرض للاختبار. وربما تنعكس مقولة ليفيناس لتصبح كلمة الشيطان هي التي تتحدث عبر وضاعة الكمامة!

ورغم أن ليفيناس يعتبر انكشاف الوجه دعوة للعبور نحو الآخر والتعايش مع اختلافه والتواصل بشكله العميق الذي يجعلك تدرك ذاتك وتخضع للإنسانية وتنبذ العنف، نجد أن الوجه قد تحول إلى قيمة لذاته، لذات الإنسان وملكيته لجسده، دون ارتباطه بقيم تتجاوز الذات لتشمل الإنسانية جمعاء. فكيف تقبل شعوب ترى في نفسها التميز والفرادة بأن تشارك العالم وجهها المغطى؟

لا شك أن وجوهنا مركزية، فقد ذكر القرآن الكريم الوجه كناية عن عقل الإنسان ونفسه وسائر جسده، كما جاء في الآية الكريمة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا…} الروم 30. ويذكر علماء التفسير سبب اختيار الوجه لكونه أكرم أعضاء بني آدم وجوارحه. كما يذكر الرازي أنه "أشرف الأعضاء من حيث أنه معدن الحواس والفكر والتخيل"، فلا عجب أن أكثر عبادة تدل على الخضوع والتقرب إلى الله تكون بملامسة الوجه للأرض عند السجود.

ولكن لا تتم قيمة الوجه دون توجيهه نحو الإله ودين الفطرة الذي يوحد البشرية. فالوجه ليس مقصودا لذاته وإنما لما يمثله من توجه وطريق يراعي فيه حقوق الله والعباد. وربما كانت حقيقة "فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه" قادرة على إنقاذ الإنسان من نفسه، فلا يكون وجه الآخر سبباً لمعرفة الإلهي بانكشافه، ولا اختبار الشيطان بتكميمه!
 
التعليقات (2)
أنوار رمضان
الإثنين، 26-04-2021 04:33 م
'' سبحان من عنت الوجوه لوجهه ''
محمد سالم عبادة
الأحد، 25-04-2021 12:33 م
مقال أكثر من رائع. تحياتي