شهدنا في الأيام القليلة الماضية خطابا سياسيا جديدا في عدد من الدول العربية والإسلامية، وأبرزها المواقف التي
أعلنها ولي العهد السعودي محمد ابن سلمان حول إيران واليمن والوهابية، وفي المقابل الترحيب الإيراني بالحوار مع السعودية، إضافة لاستكمال التحضيرات الإيجابية
للحوار المصري- التركي، وحوارات سياسية أخرى بين عدد من الدول في المنطقة، وبدء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وإجراء حوار بين عدد من الدول المحيطة بها لترتيب الوضع السياسي هناك وعودة حركة طالبان للحكم. كما نشهد بدء التواصل بين عدد من الدول العربية وسوريا والحديث عن ترتيبات لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ولقاء ملك البحرين مع أحد كبار علماء الشيعة والحديث عن ترتيب الأوضاع في البحرين وعودة
العلاقات مع إيران.
كل هذه الأجواء السياسية الإيجابية في المنطقة والإقليم تؤكد أن مسار المفاوضات والحوارات السياسية والدبلوماسية مستمر، على أمل أن يصل إلى نتائج إيجابية في وقف الحروب والصراعات ولا سيما في اليمن وسوريا ولبنان، وصولا إلى عودة الأجواء السياسية الإيجابية في كل دول المنطقة، وإطلاق المعتقلين السياسيين من السجون، وعودة
الديمقراطية وقيام الأنظمة التي تحترم إرادة شعوبها وحاجاتهم الأساسية وحرياتهم وحقوقهم في المشاركة في إدارة البلاد بعيدا عن الظلم والقمع والديكتاتورية.
هذه الأجواء السياسية الإيجابية في المنطقة والإقليم تؤكد أن مسار المفاوضات والحوارات السياسية والدبلوماسية مستمر، على أمل أن يصل إلى نتائج إيجابية في وقف الحروب والصراعات
لكن الأهم من كل ذلك ينبغي أن يتركز التفكير والبحث اليوم حول كيفية مواجهة خطاب الحقد والكراهية والتحريض الذي عشناه طيلة السنوات الماضية، والذي ما زلنا نعيش بعض تردداته حتى اليوم.
ففي ظل الصراعات السياسية والحزبية والعنفية، نشهد خطابا تحريضيا يستند إلى أبعاد تاريخية ودينية وعقائدية ومذهبية وقومية، بحيث يحشد كل طرف سياسي، سواء كان دولة أو حزبا أو هيئة دينية رسمية أو غير رسمية ووسائل الإعلام التابعة لهم، كل المصطلحات والروايات والقصص والأحداث من أجل تنميط صورة "العدو الآخر"، بحيث يتم تكفيره أو وصفه بأشد العبارات قسوة واتهامه بكل صور الإجرام. وأحيانا وللأسف يتم الاستعانة بالجانب الديني من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وفتاوى، وكل الهدف تبرير المعركة والصراع وحشد المناصرين.
وهذه الحملات لا تشمل الدول فقط، بل تصل إلى المجتمعات والطوائف والحركات والأحزاب السياسية، بحيث أحيانا يتم إصدار فتوى باتهام حركة سياسية فكرية تضم عشرات الملايين من الأعضاء في العالم العربي والإسلامي بأنها حركة إرهابية، بحجة أن بعض أعضائها مارسوا العنف أو كانت لهم ردود عنيفة على الظلم الذي يتعرضون له، في حين يتم اعتقال عشرات الآلاف من أعضائها في السجون بدون أي سبب أحيانا. طبعا نحن نستثني حركات العنف التي تمارس الإرهاب وتتبناه بشكل كامل كما يحصل مع تنظيم داعش أو غيره، فهذه الحركات لا يمكن تبرئتها من تهمة الإرهاب.
لكن بالمقابل هل يمكن اتهام طائفة كاملة بالإرهاب أو تكفيرها؟ وهل يمكن اتهام شعب بلد كامل بتهم تاريخية ووصفه بالخيانة والإرهاب أو الخروج عن الملة؟ ولماذا تتم دوما استعادة كل صراعات المنطقة المذهبية والقومية والدينية والتاريخية عند حدوث أي صراع سياسي أو صراع على السلطة والمصالح؟ ولماذا يتم إسقاط البعد الديني أو المذهبي على أي صراع سياسي؟
يتم تجييش بعض المفكرين والعلماء والإعلاميين والباحثين وهيئات دينية رسمية وغير رسمية كي تؤمن التغطية الدينية والفكرية لهذه الصراعات، وتكتب المقالات وتنشر الكتب والدراسات وتصدر الفتاوى لتبرير كل ذلك، وعندما يصدر القرار السياسي بالمصالحة والحوار ووقف الصراع والحروب يتغير الاتجاه
والأخطر من كل ذلك أنه يتم تجييش بعض المفكرين والعلماء والإعلاميين والباحثين وهيئات دينية رسمية وغير رسمية كي تؤمن التغطية الدينية والفكرية لهذه الصراعات، وتكتب المقالات وتنشر الكتب والدراسات وتصدر الفتاوى لتبرير كل ذلك، وعندما يصدر القرار السياسي بالمصالحة والحوار ووقف الصراع والحروب يتغير الاتجاه، ويتحول كل هؤلاء لتبرير الحوار والدفاع عنه. ألم يكن من الأفضل أن نبقي الصراع في إطاره السياسي والصراع على المصالح، بدل تحويله إلى صراع تاريخي أو مذهبي أو قومي أو ديني؟
طبعا هناك أمثلة عديدة يمكن إيراداها حول كل ما أشرنا إليه، لكن اليوم لا نريد أن ننكأ الجراح، بل ما نريده الدعوة إلى خطاب فكري وسياسي وإعلامي جديد يواكب التطورات الإيجابية الحاصلة في المنطقة، مع الدعوة لإجراء مراجعة كاملة حول الأسباب التي دفعتنا جميعا لتبني خطابات التحريض والكراهية والحقد.
في المعركة السياسية والعسكرية، من الطبيعي أن يلجأ كل طرف لشحذ مختلف الأسلحة والأسباب التي تدفعه لخوض المعركة والدفاع عن مصالحه، لكن الشيء غير الطبيعي أن يتم تنميط دول وشعوب وطوائف وحركات بكافة أشكال الصور السلبية والخطيرة لتبرير الصراع، ويتم دوما استعادة الصراعات التاريخية والقومية والمذهبية من أجل التحريض على الحرب والقتال.
ما هي الأسباب التي أوصلتنا إلى كل هذا الخراب ومن يتحمل المسؤولية، سواء الدول أو الحركات أو الأحزاب السياسية أو القيادات الفكرية والدينية والاعلامية
نحن اليوم بحاجة إلى قراءة هادئة لكل ما حصل طيلة العشر سنوات الماضية، وما هي الأسباب التي أوصلتنا إلى كل هذا الخراب ومن يتحمل المسؤولية، سواء الدول أو الحركات أو الأحزاب السياسية أو القيادات الفكرية والدينية والاعلامية، بل إن كل مواطن وفرد في هذا العالم العربي والإسلامي بحاجة إلى أن يراجع نفسه ويسأل: هل ساهم في هذه الحرب الدينية والمذهبية والتاريخية؟ وهل ما قام به كان صحيحا وكان مبنيا على أسس دقيقة؟ وماذا يفعل اليوم في ظل العودة إلى الحوار والمفاوضات والتصالح بين الدول؟
كما أن من واجب القوى والحركات السياسية، ولا سيما الحركات الإسلامية أن تعيد تقييم تجربتها وتدرس أسباب انخراطها في هذه الصراعات وما هي النتائج التي وصلت إليها، وكيف يمكن اليوم إعادة تصويب الأداء. ونحن بحاجة أيضا إلى من يتولى إعادة ترميم العلاقات في المجتمعات التي شهدت وتشهد صراعات سياسية أو ما بين الدول، نحن بحاجة إلى ورشة كاملة من العمل الديني والثقافي والاجتماعي والسياسي لإعادة ترميم مجتمعاتنا ودولنا، كي نعود وننخرط في مسيرة الإصلاح والبناء وقيام الدولة العادلة، دولة المواطنة وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة.
فهل من يتولى هذه المهمة الشاقة؟ وهل نتعلم من تجاربنا ونستفيد من أخطائنا ولا نعود إلى خطاب الحقد والكراهية والتحريض مجددا؟
twitter.com/KassirKassem