قضايا وآراء

أسامة شفيع عالم شاب بكته الأرض والسماء

عصام تليمة
1300x600
1300x600

منذ أن عم وباء كورونا قارات العالم، ولا يمر يوم دون أن نودع غاليا، أو قريبا، ومؤخرا لحق بركب شهداء هذا الطاعون: العالم الشاب الدكتور أسامة شفيع السيد، والذي كان يؤمل فيه أهل العلم مستقبلا مشرقا في البحث العلمي، سواء في مجال البحث، أو الترجمة.

لم أتشرف بلقاء أسامة رحمه الله، ولكني تشرفت بلقاء والده العالم الكبير، الدكتور شفيع السيد، أستاذ الأدب والنقد بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، والذي كان حديثه في محاضراته لا يمل، يأسرك بحديثه العذب الذي يبدأ من أول المحاضرة لنهايتها بالعربية الفصحى المفهومة المعاصرة بلا تقعر أو إلغاز، مع قوة في مادته العلمية، فلا يستغرب من يرى أسامة أن يعرف أنه ابن أبيه، خلقا وعلما.
 
تعرفت على أسامة من خلال فكره وكتابته وبحوثه وترجماته، وبعض أخباره العلمية التي تبهج كل محب للعلم والبحث، وتواصلت مع بعض المقربين منه، لتكوين صورة عن أسامة تكمل ما هو مبسوط في كتبه وبحوثه، فهناك معالم تبرز وتوضح شخصية أسامة.

أولها: الهمة العالية، فعطاؤه العلمي في هذا السن، وإتقانه للغات أخرى غير العربية هو ملمح يشير بجلاء إلى علو همته، ولاهتمامه بالترجمة ولإتقانه الفرنسية قصة لطيفة ذكرها رحمه الله، حيث كان يخطب ذات مرة في أحد مساجد فرنسا، وجاءه بعد الخطبة رجل مسن يتحدث الفرنسية، فأخبره أنه يرى تأثرا كبيرا في مستمعيه في الخطبة، ولكنه لا يفهم العربية، ويحس بأثر ما يقوله، ولكنه لا يستوعبه، فلماذا لا يتعلم الفرنسية ويتقنها لكي تحدث الإفادة له ولأمثاله؟!

فدفع هذا الموقف من هذا المسن أسامة لشحذ همته ليتقن الفرنسية، إلى درجة الإتقان والترجمة، وصدرت له ترجمة لكتب منها: النشأة الثانية للفقه الإسلامي، والمرجع في علم الكلام، وغيرهما.
 
الملمح الثاني: تأثره الكبير المعرفي والفكري برموز الوسطية المتزنة والمستنيرة، كالشيخ محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة، وقد قابل الغزالي مرة واحدة أثرت فيه تأثيرا بالغا، وآنس منه كيف تكون التربية الأساسية مرتبطة بالقرآن الكريم، أطلق عليها أسامة: الكتابة على البياض، يشير بذلك إلى نشأة الغزالي الدينية التي لم تمر بمراحل فيها تحول. وأطلق على تجربة عمارة: الكتابة على المحو، مشيرا بذلك إلى التحول الفكري الذي مر به عمارة.

الملمح الثالث: التوازن المعرفي، فقد كان يرى أن الفقيه أو المشتغل بالعلم الشرعي، ظالم لنفسه إن لم يكن له حظ من العلوم العربية، وهو ما كان يميزه، فقد بدأ بقراءة العقاد، ثم الأدب العربي وحفظ عيون الشعر، والعناية بالمتميزين من القدامى والمعاصرين، فمن القدامى مثل: أبي حيان التوحيدي، والصوفية على مدار التاريخ، ممن لهم قدم صدق في التصوف السني. وهو ما أعطى لحديث أسامة هذه الروح التي التفت إليها الرجل المسن الذي يتحدث بالفرنسية، وهو ما يطلق عليه أهل التصوف: اللوعة.

 

كان أسامة رحمه الله نموذجا علميا في حياتنا العلمية المعاصرة، كاد أن يندثر، وهو نموذج العالم الممتلئ علما من تراثه، الفاهم لواقعه، والمطلع على ثقافة الغرب، فقد كان أشبه في معاصرينا من العلماء بالدكتور محمد يوسف موسى رحمه الله،

 


ومع هذا التواصل الأدبي والصوفي، ينطلق بهما إلى التعمق الفقهي والفكري، دون قطيعة بينهم، وهو ما يقيم توزانا معرفيا مهما للباحث، كان شخصية أسامة العلمية تشير إلى هذا التوازن بشكل بين.

الملمح الرابع: انبساطه النفسي؛ فكان فكها رحمه الله، محبا للنكتة والضحك، مع الوقار الذي يحفظ عليه مهابته وعلمه، فيلتقط الموقف، ويحوله لطرفة حلوة، تجعل من شخصيته سهل المعشر، ويجد فيه جليسه أنسا وودا.

ويجمع مع انبساطه النفسي، انبساطه الفكري، فلا يوجد لديه انغلاق على ما يؤمن به، أو على مدرسة معينة، رغم ميله الواضح للتصوف السني، وهو التصوف الذي يتحرك بصاحبه في الحياة والعلم، ولا يعزله عن صولات العلم وجولاته، ولا العيش بين الناس، ومع ذلك جمع مع تصوفه التفقه والاطلاع على الفكر المعاصر، فلا تصوف بغير انضباط بالكتاب والسنة، وهو ما أكده كبار علماء الصوفية، كابن عربي، والشعراني، وزروق، وقد كانت أطروحة أسامة للماجستير عن ابن عربي وفقهه.

الملمح الخامس: التخطيط للاشتغال بالعلم، فقد كان وهو فرنسا يتحدث مع المقربين منه من أهل العلم، عن المشاريع التي تحكمه بعد العودة، والتي عليه أن يهتم بها، لأنه كان يشعر أنه ربما لا يتحقق له العودة مرة أخرى، لاعتبارات كثيرة، منها: الاشتغال بالجامعة، والعراقيل التي قد تحول بينه والسفر.

فكان في آخر عام من بعثته في فرنسا، يخطط قبل عودته لمشروعات تحكم مسيرته العلمية، من حيث أنواع الكتب التي سيترجمها، والمقالات والبحوث المهمة التي من المفيد أن تترجم للعربية.

كان أسامة رحمه الله نموذجا علميا في حياتنا العلمية المعاصرة، كاد أن يندثر، وهو نموذج العالم الممتلئ علما من تراثه، الفاهم لواقعه، والمطلع على ثقافة الغرب، فقد كان أشبه في معاصرينا من العلماء بالدكتور محمد يوسف موسى رحمه الله، الذي ذهب للسوربون ونال الدكتوراه في الفلسفة، ثم ترجم بعض الكتب عن الفرنسية، وبدأ حياته بالبحث الفلسفي والفكري، ثم انتهى به الأمر إلى دراسة وتدريس الشريعة الإسلامية والتصنيف فيها في مؤلفات لا تزال مرجعا في موضوعها.

وكأني بأسامة شفيع رحمه الله كان على دربه، ولكن قدر الله جاء، وهو لا يزال في شرخ الشباب، وحري بكلية عريقة كدار العلوم أن يقوم أحد باحثي الماجستير فيها بأطروحة عن العطاء الفكري لأسامة شفيع، رحمه الله، وجعل ما قدم في ميزان حسناته.

[email protected]


التعليقات (0)

خبر عاجل