أيّدت بعض الدول الغربية فكرة التواصل مع حركة "
حماس"، كونها طرفا أساسيا لا يمكن تجاوزه في المعادلة
الفلسطينية.
فقد أعربت المستشارة الألمانية ميركل في العشرين من الشهر الجاري عن تأييدها للتفاوض معها بقولها: "لا يجب التفاوض معها بشكل مباشر دائما، لكن لا بد من إشراك حماس بطريقة ما، فبدون حماس لن يكون هناك وقف لإطلاق النار". وأضافت أنه "لا بد بالطبع من وجود اتصالات غير مباشرة مع حماس".
في ذات السياق، صرح مصدر أوروبي مسؤول وصف بالرفيع لقناة الجزيرة (21 أيار/ مايو) بقوله: "الاتحاد الأوروبي سيحتاج للتعامل مع حماس بشكل أو بآخر لأنها جزء من الحل"، مضيفا: "التعامل مع حماس مشروط بتحقيق المصالحة الفلسطينية أولا، بعد المصالحة الفلسطينية يمكن للأوروبيين إجراء اتصالات غير مباشرة مع حماس".
تبدو تلك التصريحات مقاربة أوروبيّة جديدة للتعامل مع حركة "حماس" والمقاومة الفلسطينية عموما. ولفهم أو تفسير تلك التغيّرات النسبية في الخطاب الأوروبي، نتوقف عند الملاحظات التالية:
هذا الخطاب لا يعني بالضرورة تغيرا جوهريا في الموقف الأوروبي من "حماس"، فالحركة لا زالت إرهابية في التصنيف الأوروبي
أولا: هذا الخطاب لا يعني بالضرورة تغيرا جوهريا في الموقف الأوروبي من "حماس"، فالحركة لا زالت إرهابية في التصنيف الأوروبي، ناهيك عن أن موقف ميركل جاء في أثناء زيارة وزير خارجيتها هايكو ماس لتل أبيب (20 أيار/ مايو الجاري)، مؤكّدا تضامن ألمانيا مع إسرائيل في أثناء عدوانها على غزة. هذا ناهيك عن أن آرمين لاشيت، رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي (حزب ميركل) ومرشحه لمنصب المستشار في ألمانيا، طالب بـ "إجراءات أكثر صرامة في التعامل مع حركة "حماس" والمتعاطفين معها على الأراضي الألمانية"، متهما حماس بأنها "منظمة إرهابية تقوم بإضعاف السلطة الفسلطينية، وبإلحاق الضرر بالفلسطينيين في غزة، ولا أراها - حسب قوله - طرفا محاورا للحكومة الألمانية في الوقت الحالي".
ثانيا: عند النظر إلى تلك التصريحات، لا بد من استحضار الموقف الأمريكي الذي يشكّل عادة محددا أساسيا في فهم طبيعة وسقف الموقف الأوروبي. فالولايات المتحدة عبّرت عن دعمها لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في مواجهة صواريخ
المقاومة وحركة "حماس" المصنفة أمريكيا إرهابية. لكن، هنا لا بد من الإشارة إلى أن واشنطن اضطرّت للتدخل لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، وبتعديل خطابها المتعلّق بالقدس وبحي الشيخ جراح، لأسباب أهمها حماية إسرائيل من نفسها عندما عجزت خلال المدة التي منحتها إياها واشنطن من القضاء على البنية التحتية للمقاومة، وعندما بدأت تتعالى أصوات المشرّعين الأمريكيين في الحزب الديموقراطي (حزب الرئيس بايدن) في انتقاد سلوك الجيش الإسرائيلي، الذي يقتل الأطفال ويدمّر البيوت والمكاتب الصحفية (برج الجلاء) أمام عدسات الكاميرات وفي أثناء البث المباشر، ما يعني سقوط الرواية الإسرائيلية أمام الرأي العالمي والجمهور الأمريكي، الذي خرج بعشرات الآلاف في واشنطن ونيويورك وميتشيغان للمطالبة بوقف العدوان الإسرائيلي، وهو العدوان الذي إن استمر سيشكل إحراجا وتشويشا للإدارة الأمريكية بقيادة جو بايدن، الرافع لواء الدفاع عن حقوق الإنسان. هذا ناهيك عن الخشية من ارتدادات ما يجري في فلسطين على دول المنطقة العربية وأنظمتها، التي أصبحت محرجة أمام ضغط الرأي العام، لا سيّما الأنظمة التي تقيم علاقات تطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
ثالثا: بالعودة إلى مفردات تصريح المسؤول الأوروبي لقناة الجزيرة، نجد أنه تحدّث عن أهمية الاتصال الرسمي غير المباشر بحركة "حماس" بواسطة مصر أو قطر، بشرط إتمام المصالحة الفلسطينية أولا. وهنا نكتشف غاية الموقف الأوروبي بمحاولته الالتفاف على ما أنجزته معركة "سيف القدس" من انتصار على الاحتلال، والحيلولة دون استكمال ما أنجزته حركة "حماس" والمقاومة الفلسطينية التي نالت شرف الدفاع عن القدس، والتي حظيت بتأييد فلسطيني عارم (بمنزلة استفتاء وانتخاب)؛ لأن تعظيم هذا المسار الشعبي النضالي والبناء عليه لاسترداد الحقوق الوطنية، يُعدّ مأزقا وجوديا لدولة الاحتلال الإسرائيلي، التي تشكّل بدورها قاعدة أمريكية غربية متقدمة في الشرق الأوسط.
يدرك الأوروبيون أهمية وخطورة دفع حركة "حماس" للعودة إلى الوراء، إلى مربع اللعب مع فريق أوسلو، إلى مربع التباينات والانقسامات الداخلية التي تشكل حلبة استنزاف للفلسطينيين دون الاحتلال الذي يتنفس الصعداء
وهنا يدرك الأوروبيون أهمية وخطورة دفع حركة "حماس" للعودة إلى الوراء، إلى مربع اللعب مع فريق أوسلو، إلى مربع التباينات والانقسامات الداخلية التي تشكل حلبة استنزاف للفلسطينيين دون الاحتلال الذي يتنفس الصعداء على هذا الوتر، وتر العودة للحديث عن الانقسام وإشغال المقاومة بتفاصيل ومسارات أوسلو، فتتحول "حماس" وكتائب القسام من يدٍ عُليا تفرض شروطها على الخصم والعدو، إلى يدٍ دنيا تستجدي رضا سيادة الرئيس محمود عباس للموافقة على هذه أو تلك من أعمال البلديات والوزارات تحت سيادة الاحتلال، ما يعني عمليا محاولة لخنق الفيل في علبة سردين فريق أوسلو.
فالغرب يسعى هنا لتحييد قوة "حماس" العسكرية أولا، ومن ثم تغيير سلم أولوياتها السياسية الوطنية بالانتقال من مربع المواجهة الشاملة مع الاحتلال إلى مربع المصالحة مع حركة "فتح"؛ التي غابت عمليا عن مجهر الشعب الفلسطيني وعينه، في زحمة الدفاع عن القدس وحي الشيخ جراح. إنها مهارة الغرب في تقسيم المقسم، واستنزاف الجريح، والسير في جنازته.
أحسب أن الشعب الفلسطيني بخبرته وتجاربه الطويلة أصبح مدركا لألاعيب الدول الغربية، وطرق خداعها المتعددة في حماية المشروع الصهيوني، الذي وجّه له الشعب الفلسطيني ضربة قوية بسيف القدس، تلك المعركة التي يجب البناء عليها باستدامة المقاومة الشاملة، وعدم التوقف أو العودة إلى الخلف، بعدما أعلن الشعب الفلسطيني بوضوح منح ثقته لفصائل المقاومة، فالعودة إلى الخلف تعني خيانة لهذه الثقة، وخيانة لدماء الشهداء.
هنا يقع الامتحان الأصعب أمام الفلسطينيين في كيفية المواءمة بين استمرار المقاومة الشاملة والنضال السياسي لإعمار غزة واسترداد الحقوق الوطنية
أنجزت المقاومة بإعادة القضية الفلسطينية إلى سلم الأولويات في المنطقة العربية، وإلى سلّم السياسة الدولية بعد أن حاول البعض شطبها بتركها لقمة سائغة في فم الاحتلال الصهيوني ليقضم منها كيف يشاء، فكان الشعب الفلسطيني على موعد وقدر لكسر تلك المعادلة، وكانت المقاومة رأس حربة في هذا المسار الذي سيشهد خلال الأسابيع القادمة محطات سياسية غربية وعربية، في محاولة منها لثني الفلسطينيين عن خيار استدامة المقاومة في مواجهة الاحتلال، عبر ابتزازهم بملف إعمار غزة التي كان لها شرف الدفاع عن القدس.
وهنا يقع الامتحان الأصعب أمام الفلسطينيين في كيفية المواءمة بين استمرار المقاومة الشاملة والنضال السياسي لإعمار غزة واسترداد الحقوق الوطنية؛ لأن العالم وفقا لفلسفة الواقع، لا يحترم إلا الأقوياء، ولا يرى في الدبلوماسية إلا شكلا من أشكال الحرب.