انتبه من فضلك.. إذا كنت صحفيا فحياتك في خطر شديد.
عزيزي القارئ، هذا المقال ليس دعوة للتشاؤم وليس محاولة لنشر الذعر والخوف والقلق، ولكنه إقرار بواقع وتأكيد لحقيقة مؤسفة يعيشها ملايين
الصحفيين حول العالم بشكل يومي.
أن تشعر بالأمان بعد فترة من المطاردات والملاحقات الأمنية فهو أمر لو تعلمون عظيم، فعندما تقودك الظروف والأقدار للعمل في مهنة الصحافة فتكتب عن الفساد في بلدك الأم، ثم تنتقد الحكومة ويذهب قلمك بعيدا حتى يطال رأس الدولة بالانتقاد، فيعتقلوك وينكلوا بك، ثم تضطرك الظروف للخروج من بلدك والبحث عن ملجأ آمن تمارس فيه الصحافة وأنت في مأمن على حياتك، فتغلق عليك بابك وتنام وأنت قرير العين للمرة الأولى في حياتك، ثم تغتر بهذا الأمان فتقرر السفر من بلد لآخر فتستقيظ على أسوا كوابيسك على الإطلاق، لتجد نفسك معتقلا مرة أخرى في بلدك الأم، عندها فقط تأكد بأن اسمك رومان بروساتيفيتش.
العالم تتم إدارته الآن بمبدأ البلطجة، فلا احترام لقوانين دولية أو اتفاقات ومواثيق. شكرا لدونالد ترامب، الرجل الذي رسخ وأسس لهذا المبدأ في العالم، فمن لديه القوة فليفعل ما يشاء ولن يحاسبه أحد طالما امتلك الأموال والعلاقات الدولية التي تساعده في التغطية على جريمته
استغرق الأمر مني أياما حتى أستطيع الكتابة عن هذا الصحفي الشاب الذي يصغرني بعشرة أعوام. رومان بروسايفيتش، صحفي من بيلاروسيا (روسيا البيضاء)، استطاع بعمله الصحفي أن يقود الرأي العام المعارض في البلاد ويدفع بأعداد هائلة للتظاهر في الميادين والشوارع ضد لوكاشينكو، ولكنه فوجئ بطائرة حربية
تعترض طائرة الخطوط الأيرلندية المتجهة من أثينا اليونانية إلى فيلنيوس اللتوانية، ليفقد حريته مرة أخرى وينتهي إحساسه بالأمان، ويعود إلى حياة القمع والسجن والزنزانة تحت حكم الديكتاتور.
في شباط/ فبراير 2018 كنت متوجها من إسطنبول إلى لندن في إجازة قصيرة مع زوجتي، لأفاجأ بضابط الجوازات في مطار أتاتورك يستوقفني ويلغي سفري، ثم يحتجزني لمدة نصف ساعة في غرفة جانبية ليخبرني بوجود بلاغ من الإنتربول المصري ضدي، وبأنه يجب تسليمي على الفور للسلطات المصرية. بعد مداولات واتصالات، اقتنع هذا الضابط بالأمر وأخبرني بقرارهم بالسماح لي بالسفر إلى لندن، ولكنه أخبرني بعدم إمكانية عودتي مرة أخرى إلى تركيا، ما ترتب عليه طلبي للجوء السياسي في بريطانيا، ثم حصولي على حق اللجوء السياسي بعد ذلك.
إنه الأمان والحرية إذا، هذا ما نعيشه، ولكن حادثة رومان أيقظتني ونبهتني مرة أخرى إلى أنه لا أمان لك ما دمت صحفيا. مؤخرا التقيت بأحد الصحفيين الشبان في لندن، عرف نفسه بأنه نجل الصحفية دافني كاروانا غاليزيا، وهي من أهم وأبرز الصحفيات في مالطا ولكنها للأسف، قُتلت في تشرين الأول/ أكتوبر 2017 بقنبلة وضعت تحت سيارتها الخاصة. السبب في قتلها كما أخبرني ابنها كان عملها الصحفي في كشف المسؤولين المتورطين في قضايا فساد ومشاركتها في التسريبات المتعلقة بوثائق بنما.
حادثة القتل هذه، دفعت نجلها بول للدخول إلى عالم الصحافة بنشر تحقيق عن مقتل والدته؛ حاز به على جائزة صحفية دولية لأفضل تحقيق استقصائي.
كصحفي تعمل في الخارج قد تقودك الظروف للتعامل مع سفارة بلادك لتخليص أوراق قانونية تتعلق بتجديد جواز سفرك أو استخراج وثيقة للزواج، لينتهي بك المطاف مخنوقا، مقطعة أوصالك، ومذابا جسدك ولا يعرف أحد أين جثتك، كما حدث مع الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي. وقد يتغلب عليك اليأس والإحباط من حياتك في المنفى فتقرر العودة إلى بلادك دون سابق إنذار، ليتم اعتقالك فور وصولك إلى المطار، كما حدث مع الصحفي المصري
جمال الجمل الذي اعتقتله السلطات المصرية فور وصوله مطار القاهرة، على ذمة قضايا ملفقة.
ليس ضروريا أن يكون عملك الصحفي في كشف قضايا الفساد أو التسريبات المتعلقة بالمسؤولين كي يتم استهدافك، يكفي أنك صحفي كي يتم استهدافك، كما حدث مع الصحفيين الإسبانيين ديفيد برياين وروبرتو فرايلي، اللذين قتلا في بوركينا فاسو على أيدي إرهابيين استهدفوا دورية لمكافحة الصيد غير القانوني في البلد الأفريقي.
نعم هذا العالم ليس مكانا آمنا للصحفيين ولكننا لن نتوقف، لن نشعر بالأمان التام ولكن كلماتنا أيضا لن تشعر كثيرا من الحكام والفاسدين بالأمان التام
العالم تتم إدارته الآن بمبدأ البلطجة، فلا احترام لقوانين دولية أو اتفاقات ومواثيق. شكرا لدونالد ترامب، الرجل الذي رسخ وأسس لهذا المبدأ في العالم، فمن لديه القوة فليفعل ما يشاء ولن يحاسبه أحد؛ طالما امتلك الأموال والعلاقات الدولية التي تساعده في التغطية على جريمته. لم تعد الولايات المتحدة حتى هي تلك القوة التي يخشاها الجميع، والاتحاد الأوروبي بات منقسما على نفسه بعد خروج بريطانيا، ودول شرق أوروبا باتت تتغذى على مبادئ البلطجة الروسية، وفي آسيا لا صوت يعلو فوق صوت القمع والتنكيل الصيني الذي تمارسه السلطات هناك ضد الجميع وعلى رأسهم الصحفيون.
اتخذت قرارا وأنصح به كثيرا من الزملاء.. لا تسافروا، لا تتحركوا كثيرا، وإن كان ضروريا فتجنبوا الرحلات التي يمكن أن تصادف المرور من الأجواء الجوية لبلدك الأم. أعددت قائمة بالأماكن المحرم على الصحفيين دخولها حتى حين، لا تذهبوا للمطارات ولا تدخلوا سفارة بلادكم، ولا تسافروا إلى بلدان عربية أو إلى دول لديها اتفاقات أمنية مشتركة مع بلدكم الأم.
نعم هذا العالم ليس مكانا آمنا للصحفيين ولكننا لن نتوقف، لن نشعر بالأمان التام ولكن كلماتنا أيضا لن تُشعِر كثيرا من الحكام والفاسدين بالأمان التام.
twitter.com/osgaweesh