في كل ذكرى لمأساة حزيران/ يونيو لن نمل من إنعاش ذاكرة الأجيال بالحقائق التي طمست عمدا عن هذه المأساة، فقد غابت التحقيقات المستقلة في ملابسات هذه المأساة، كما أرجو أن يتجرد
المصريون من النوازع العاطفية التي تربط الأحكام بشخص الحاكم، فلا بد من تحرر العقل من الأوهام حتى نرى الحقيقة لصالح الوطن.
الدلالة الأولى لمأساة يونيو أنها ثمرة الدجل السياسي المقصود للأستاذ هيكل الذي لم يمل يوما من تبرير الاستبداد وإعلاء الحاكم على الوطن والحقيقة، فقد برر دكتاتورية النظام بأن مصادرة حرية المواطن لازمة لكى يتفرغ الحاكم لتحقيق حرية الوطن. وقد لخصها في معادلة بليغة ظلت الجماهير الغافلة ترددها، كما أن تلاميذه الصحفيين والسياسيين لم يجرؤوا حتى الآن على تشريع المعادلة وإخضاعها للتحليل العقلي. والمعادلة تقول إن حرية الوطن مقدمة على حرية المواطن. وأظن أن هذه المعادلة لم تختف باختفاء هيكل لأن الحكم المستبد من لوازم الحياة العربية.
وكشفت مأساة يونيو عن ضياع حرية المواطن وحرية الوطنا يوم هزمت إسرائيلُ مصرَ رغم البطولات الفردية الرائعة التي يجب توثيقها، كما دفنت
إسرائيل الآلاف من أفراد القوات المسلحة الكسيرة أحياء في سيناء، بل وسجلت هذه الجريمة/ الملحمة في فيلم روح شاكيد. ولم تتحرك مصر في كل العصور اللاحقة لأن إسرائيل تمكنت من مصر والمنطقة من خلال كامب ديفيد.
الدلالة الثانية: أن تركيز إسرائيل على مصر يدل على أن مصر هي مركز العالم العربي، وأن إعطاب هذا المركز يضمن لإسرائيل العبث بالعالم العربي وخاصة في فلسطين. فقد حولت مصر من حاضن للقضية انطلاقا من أمنها القومي إلى دور الوسيط بين فلسطين وإسرائيل، كما حدث ولا يزال في كل المناسبات. وتدرك إسرائيل جيدا أن استقامة الأحوال في مصر فيها تهديد لإسرائيل، لأنها تزدهر كلما تكاثرت الأسقام على مصر.
وتطبيقا لذلك سارعت إسرائيل لقتل ثورات الشعوب العربية، كل بمخطط مختلف، حتى تحافظ على عروش الحكام المتحالفين والمتناغمين معها. وأهم نجاح حققته إسرائيل هي إعطاب الدور العربي لمصر وإخراجها من معادلات القوى الإقليمية إلى حين وبدرجات مختلفة.
الدلالة الثالثة: أنها تظهر التقابل بين انتصار الديمقراطية الإسرائيلية على
الدكتاتورية المصرية، ولذلك كانت المأساة ثمرة طبيعية للاستبداد وسوء الإدارة، ومستحيل أن نتصور انتصار مصر في صد المخطط الإسرائيلي.
الدلالة الرابعة: أن المأساة كانت نجاحا باهرا لإسرائيل؛ فتحت أمامها كل الأبواب اللازمة لازدهار المشروع الصهيوني وكسر الإجماع العربي على عدائها إلى ما يقارب الإجماع الآن على صداقتها، كما نجحت إسرائيل في تبديد مصطلح الصراع العربي الإسرائيلى وإطلاق مصطلح السلام الخلاب ولكن بمفهومها الخاص.
وبهزيمة مصر ونظامها وجيشها زالت هيبة مصر عند إسرائيل وتولى السادات الباقي، ولا يزال دور السادات بحاجة إلى تحقيق رسمى وأكاديمي؛ لأن الرجل هو من مكن المشروع الصهيوني من مصر والمنطقة، وأفقد مصر صوابها بوعود كاذبة بالسلام والرخاء وأضواء السلام وبعودة الأرض التي احتلتها إسرائيل، وهو بذلك يطارده هاجس عبد الناصر. فإذا كان عبد الناصر قج ضيع سيناء فالسادات استردها، وقطعا لم يدرك السادات أنه رهن إرادة مصر بالكامل وأسس لتمكين إسرائيل من سيناء التي لم ترفع عينها يوما عنها.
الدلالة الخامسة: هي أن
يونيو 1967 كانت ذريعة لكامب ديفيد وضياع مكاسب مصر من تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ثم مبادرة السلام السعودية 1981 التي قدمت في قمة الرباط عام 1982، وكانت سببا في غزو إسرائيل لبيروت 1982 وضرب المفاعل العراقي 1981، ودفع صدام للحرب مع إيران عام 1980، وما ترتب على ذلك من ضياع العراق واستدراج صدام لغزو الكويت، ودعم عرفات له وضياع القضية، ومؤتمر مدريد 1990 وصولا لأوسلو 1993 ووادي عربة 1994، والمبادرة العربية السعودية للسلام والتراجع العربي الرسمي في قمة بيروت 2002، وحصار عرفات ثم اغتياله في وقت انصرف العرب بسبب كامب ديفيد عن القضية.
والمحصلة النهائية لما فعله السادات هي خسارة مصر لعالمها العربي الذي كان حاضنة لها وهي حارس لقضاياه؛ لولا الصخب السياسي الذي عاشته مصر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي والذي زرع الكراهية لدى بعض الدول العربية لمصر.
الدلالة السادسة: هي أن إدارة الصراع مع إسرائيل تحتاج إلى تخصص ومهارات وليس مجرد الفهلوة، خاصة أن هيكل كانت له مصلحة في استمرار النظام على أي وجه، ولذلك خرج بنتيجه غريبة وهي أن مصر انتصرت على إسرائيل، بمعنى أن النظام في مصر الذي استهدفته إسرائيل ظل صامدا لأن سقوط النظام يعني سقوط كل شيء. وهذا صحيح في ظل نظام يؤمن بأن وجوده أهم من وجود الوطن وأن الخارج يتآمر عليه أي على الوطن، بحسبان أن النظام هو الوطن، وهذه معضلة في الداخل والخارج.
فهل كانت 1973 تصحيحا لما حدث عام 1967؟ لا شك في أن الجيش استعاد كرامته المهدرة عام 1967 لولا الثغرة التي يجب التحقيق المستقل فيهل وبدور السادات في إحداث هذه الثغرة كما، قال الفريق الشاذلي في روايته.
والحق أننا بحاجة إلى نظام ديمقراطي يتيح الكشف عما حدث لمصر منذ عام 1952 في الداخل وفي علاقاتها الخارجية، وحجم الضرر الذي لحق بمصر بسبب مأساة 1967.
والثابت أن مصر كانت مشغولة باليمن والصراع مع السعودية ومع معظم الدول العربية بسبب انقسام العرب بين موسكو وواشنطن في الحرب الباردة.
والثابت أيضا أن 1973 لم تمح آثار1967 التي ستظل إلى قيام الساعة.
يكفي أن نشير إلى أن هزيمة مصر 1967 كانت نقطة تحول في سياسات المنطقة، وهي البداية لتراجع مصر والعرب وتفكك الكتلة العربية المحيطة بمصر والمعادية لإسرائيل. والدرس الذي نخرج به نلخصه أمرين:
الأمر الأول : خطورة الاستبداد على الوطن.
الأمر الثاني: ضرورة التئام العرب حول مصر المؤهلة موضوعيا لقيادة العرب.