جدلية الاستقرار والتجديد
يألف كل مجتمع بشري أوضاعاً محددةً وينسج معايير ونظماً تمثل الملة التي يجتمعون عليها، ثم يتوارثونها جيلاً عن جيل.
وتتجاوز الملة رسالتها الروحية ومبرراتها العقلية لتكتسب دور منح كل أمة الشعور بذاتها وتماسك نسيجها الاجتماعي، لذلك لا يتمسك أكثر الناس بالدين المألوف عن آبائهم من منطلق اقتناع عقلي، بل لأنهم يشعرون أن هذا الدين جزء من الذات والكينونة، فهو يمثل هويةً نفسيةً واجتماعيةً ويمنحهم الشعور بالاستقرار والتماسك.
وقد أوضح القرآن هذه الحقيقة الاجتماعية: "وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، فعبادة الأوثان هي الأرضية التي ينسج الأقوام عليها علاقاتهم الاجتماعية ومودتهم، لأن المرء يشعر بالتوافق والانسجام مع شبيهه، فالأمر كما تبينه الآية لا علاقة له بالقناعة العقلية.
ويوضح القرآن في آيات كثيرة أن مرد تكذيب الأقوام برسالات رسلهم أنها مخالفة للمألوف السائد:
"قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا"، "قالوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا"، "قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا"، "قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ"، "قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ"، "قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا"، "بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ".
والآباء في اللغة المفاهيمية في القرآن رمز للثقافة السائدة المتوارثة في كل مجتمع، فالأقوام لا يكذبون برسالات الرسل لعلة في قدرتها الفكرية على الإقناع، بل لأنهم آثروا
التقليد على
التفكير، وبمثل هذا الفهم فإننا نحيي معاني القرآن ولا نتعامل معها بأنها قصص الأقدمين وحسب، أو أن هذا الكتاب لنيل البركة وطرد الشياطين فقط دون فاعلية فكرية. فهذه الآيات تتضمن قانوناً إنسانياً ثابتاً، وهذه الأمراض تصيب أي قوم في أي زمان. وحتى المسلمون أنفسهم غير محصنين من الوقوع في هذه الأمراض، فكل قوم يؤثرون التقليد على التفكير، فهم من الفريق القائل: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون".
في مقابل موقف الأقوام المتشبث بموروث الآباء فإن موقف الرسل يمثل صوت العقل ومقاومة الجمود:
"أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ"، "قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ"..
لو أردنا صياغة هذا الموقف الرسالي باللغة المعاصرة فكأن الرسل يخاطبون أقوامهم: لماذا تؤثرون التقليد على الأفكار الأنفع والأكثر حيويةً؟ ماذا لو أن التقاليد الموروثة ثبت بطلانها وعقمها؟
هذا الموقف الرسالي التجديدي في مواجهة جمود الأقوام وتمسكهم بالتقليد الأعمى مخالف للتصور النمطي لطبيعة الدين، إذ إن كثيراً من المسلمين يظنون أن الدين هو دعوة إلى التمسك بموروث السلف، ولذلك نشأت مدرسة السلفية وطغت، وتكوَّنَ شعور عميق متوجس من كل تجديد بدعوى أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. لكن التدبر في معاني القرآن يهدينا إلى أن دعوة الدين هي دعوة تجديدية بالضرورة، لأن قوام
الرسالات كان دائماً رفض التقليد الأعمى والتفكر في الحق المجرد، وهو أساس لا يزال قائماً في كل زمان. فلا يعقل أن ينكر الله تعالى على الأقوام السالفة إغلاق عقولهم ورفض التفكير، ثم يجعل سبيل النجاة للمسلمين المتأخرين أن يغلقوا عقولهم ويقفلوا باب الاجتهاد ويقولوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا وسلفنا الصالح!!
نعم إن أصل الدين ثابت، وإن الروح التي نزلت في السابقين لا تزال حيةً ملهمةً، وإن القرآن كتاب متجدد العطاء، لكن الأفهام التي كوَّنها المسلمون عبر العصور تجاه دينهم خاضعة للقانون الإنساني وتستدعي تفتُّح العقل في التعامل معها والمراجعة الدائمة، فهذه هي روح الرسالات.
لكن ألم تكن الأقوام معذورةً في المحافظة على الاستقرار؟
يميل البشر بطبيعتهم إلى الاستقرار ويتوجسون خيفةً من تقلقل وزوال المنظومة السائدة؛ لأن ثباتها يشعرهم بالأمان. إذاً لماذا ينكر القرآن على الأقوام إيثارهم الاستقرار وتمسكهم بما وجدوا عليه آباءهم في مواجهة دعوات الرسل؟ حتى المسلمون الذين يقرؤون القرآن فإنه لو بعث رسول جديد اليوم فسيرفض كثير منهم دعوته ويؤثرون ما وجدوا عليه آباءهم! ولا أدل على ذلك من أن كثيراً من المسلمين يؤثرون التحاكم إلى أعراف القبيلة على أحكام القرآن في قضايا مثل الثأر والشرف ونحو ذلك..
والإجابة، إن ما يصلح أحوال البشر ليس الاستقرار المؤدي إلى الجمود والموت بل دوام الحركة والتجدد، هذه سنة الله تعالى في خلقه، ولو كان الاستقرار يعني الوئام والتوافق لما كان هناك ضير، بل إن ذلك مقصد ديني، لكن المشكلة أن يكون طلب الاستقرار دون اعتبار للظلم وانطفاء العقل وشيوع الفساد.
في أمثلة الأقوام التي يذكرها القرآن، فإن دعوى الاستقرار التي كانوا يحاجُّون رسلهم بها فإنها كانت تخفي وراءها دائماً أوضاعاً مختلةً من الظلم والفساد:
فقوم فرعون كانوا يريدون الاستقرار، ولكنه استقرار على حساب استمرار استعباد بني إسرائيل والتعالي الطبقي عليهم وقتلهم والإفساد في الأرض.
وقوم عاد كانوا يريدون الاستقرار، ولكنه استقرار على حساب استمرار بغيهم وغرور القوة الذي يتملكهم: "من أشد منا قوةً".
وقوم شعيب كانوا يريدون الاستقرار، ولكنه استقرار على حساب استمرار الظلم الاقتصادي وتطفيف الكيل وبخس الناس أشياءهم.
وقوم لوط كانوا يريدون الاستقرار، ولكنه استقرار على حساب تفشي الفساد الأخلاقي المنافي للفطرة وقطع الطريق على المسافرين.
وقريش كانت تريد الاستقرار، ولكنه استقرار على حساب استمرار التمييز الطبقي بين الناس والقتل والربا.
فالاستقرار الذي تتخذه الأقوام مبرراً للتكذيب بدعوات الرسل منافٍ للعدل، وهو بذلك استقرار متوهم، فالاستقرار الحقيقي يجب أن يكون لكل الناس على أساس العدل والقسط.
وهذا أيضاً قانون دائم يلزمنا الانتفاع به في زماننا، فادعاء المحافظة على النسيج المجتمعي والاستقرار ووحدة الوطن يجب ألا يكون على حساب مجاملة الأوضاع الخاطئة والتصالح مع الظلم والفساد. فالعدو الحقيقي للاستقرار ليس دعوات الرسل بل هو الظلم والفساد، وما دام الظلم والفساد ينشط في القواعد فإن طبقة الاستقرار الظاهرية هشة زائفة تخفي النار تحت الرماد.
من هم أعداء الرسل؟
في كل اجتماع بشري تتكون طبقة من أصحاب المصالح والنفوذ يحظون بامتيازات من الحالة القائمة، وهؤلاء هم الأشد تمسكاً باستقرار الأوضاع، وهم أيضاً الأشد مقاومةً للتغيير، هذه الطبقة سمَّاها القرآن "الملأ"، وكانت دائماً هي المتصدرة للتكذيب بدعوات الرسل: "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ..".
وهكذا فإن التكذيب بالرسل ليس قضيةً فكريةً، بل هو قضية مصلحية تتعلق بخوف المتنفذين من فقدان امتيازاتهم.
لذلك ليس عجيباً أن يكون المترفون هم أئمة المكذبين الذين يتصدون لدعوات الرسل، فهم الذين ينتفعون من اختلال الأوضاع، وينتفعون من شيوع الظلم والفساد، بينما دعوات الرسل هي إقامة العدل والإصلاح:
"وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ".
"وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ".
في الآية الثانية يمتزج الفكري والمصلحي في خليط واحد، فالمترفون هم الذين يتذرعون بالمحافظة على النسيج المجتمعي وتقاليد الآباء، بينما دافعهم النفسي الحقيقي هو أنهم استثمروا النسيج المجتمعي في منافعهم الخاصة.
لذلك أيضاً فإن أكثر أتباع الرسل من المستضعفين، فالمستضعفون لا يملكون ما يغريهم بالتمسك بالواقع الراهن، سوى الخوف من سطوة المستكبرين أو الخوف من فقدان الاستقرار النفسي، أما على صعيد الامتيازات فقد حرمهم المترفون منها، لذلك فإن مبرر التفكر في دعوة الرسول والاقتناع بصدقها أقوى في نفوسهم.
يتبع..
twitter.com/aburtema