ماذا عن تحول الدولة لمقر
لقواعد عسكرية أمريكية ومركز تنسيق عمليات، ثم تعزيزها بالتزامن مع عمل لجنة
الإصلاح التي غابت عنها الأوراق الملكية؟ ولأي غرض قادم يكون الحشد الأمريكي في
الأردن؟
يقضي المنطق أن تكون طبيعة الإصلاح من طبيعة
الاختلالات وبحجمها، وهي في الحالة الأردنية بحجم وعمق يصل إلى إفشال دولة ومعاناة
شعب ودستور، وتراجع شامل يسير بالمجمل نحو مخاطر وجودية تكمن في صلب المشروع
الصهيوني. فنحن لسنا أمام مجرد اختلالات محدودة تعيق مواكبة التطور في هذا الجانب
أو ذاك كي يُشَكَّل لها لجنة إصلاح، بل أمام فشل عام وخطر داهم.
وبهذا لا يمكن أن تكون عملية الإصلاح في
حالتنا إلاّ شاملة ومترابطة ومتكاملة، فكل خلل مبني على خلل سبقه، وكل جزئية
إصلاحية لا بد لإنجازها من أن تكون مُكملة لأخرى، وأسبقية التنفيذ تحكمها، وإلا
سنكون كمن يضع العربة أمام الحصان.
وقد كانت أوراق النقاش الملكية تُمثل رؤية
إصلاحية متقدمة، ولكنها غابت تماماً عن توجيهات الملك في العملية الإصلاحية
الجارية، وهذا له معان مُحبطة.
وبالتشخيص التاريخي والميداني نجد جذور الفشل
في الأردن خارجية ومرتبطة بأهداف منشئي الدولة وبطريقة حكمها. وابتدأَ هذا الفشل
وتعمق بخلل أساسي شكَّل مفرخة لاختلالات كانت مطلوبة؛ وتَمثل هذا الخلل الرئيس في
إفساد طبيعة العلاقة بين مكونات الدولة الثلاثة كي تخدم وظيفتها ثم تنتحر. وكانت
الوسيلة بجعل السلطة دكتاتورية موجهة خارجيا في سياساتها، لينعدم الترابط وتزول
الرابطة بين الملك والشعب والوطن، فكان أن تراجعت قيمة الوطن والشعب أمام السلطة.
فعملية الإصلاح الحقيقي المطلوبة في الحالة
الأردنية هي في تصحيح هذه العلاقة بين المكونات، بحيث يصبح الحكم وظيفة والشعب
مُصانة حقوقه المتساوية وسيد نفسه، وتكون الأرض مصانة وخطاً أحمر. وهذا لا يكون
إلاّ بزوال التفرد بالسلطة وإعادتها لحضن الشعب ضمن إطار مؤسسي بقوة القانون
الأساسي المهيمن وهو الدستور، باتجاه تفعيل نظام ديمقراطي بشكلِ ومضمونِ الحكم
النيابي الملكي.
ولا يُربكنا في هذا المصطلح الغربي "constitutional monarchy" كما وضح الأستاذ ليث شبيلات. فالملكية ليست منزلة علينا ولا تتقدم
على الشعب أو عقيدته أو عروبته، ولكنها موجودة. ومن المحمود في حالتنا الأردنية
إصلاحها والإبقاء عليها مُقيدة بالدستور.
ومن هنا فإن الإصلاح في حالتنا الأردنية لا
يكون ولا يبدأ إلا بإزالة الخلل في عنصر السلطة التي يُمثلها الملك، وذلك بإصلاحها
أو صلاحها. وبعدها يُمكن التقدم نحو بناء العملية الإصلاحية في بنية ومضمون الدولة
بسلطاتها ومؤسساتها.
وأمامنا في هذا شرطان مع دلالتيهما، فإذا
توفرا بدلالتيهما نكون أمام عملية إصلاح جاد. أما الشرطان فهما: ضمان تحقق الإرادة
السياسية والرغبة الحقيقية لدى الملك بالتغيير بصفته القابض على السلطة، واستعداده
للتخلي عن التفرد بها على أسس النظام النيابي الملكي الديمقراطي. والثاني ضمان حصر
خطة وتنفيذ العملية الإصلاحية بفئة سياسية وطنية وواعية ومقبولة شعبياً من خارج
العلبة، تؤمن بالإصلاح المنطوي على
التغيير.
أما الدلالتان فهما المؤشران والمعبران عن
توفر الشرطين لدى الملك، وما لم نلحظ بوادر الأول في مكنونه، ونشهد الثاني مترجماً
على الأرض، فنحن في ملهاة، وكلامنا هراء. أما الأول فهو تصميم الملك في قرارة نفسه
على الانقلاب على النهج السياسي ودور الدولة الوظيفي، حيث لا إصلاح ممكنا مع
الالتزام بالمشروع الصهيوني ومقتضياته. أما الدلالة الثانية فهي التوقف عن سياسته
الداخلية الرافضة للمعارضين وأصحاب الرؤية الإصلاحية، وضرورة اعتبارهم الشركاء في
هذه المرحلة.
ونحن في الدلالة الأولى نُقدر احتمالية
الصعوبات التي قد تواجه الملك والدولة حين انقلابه على نهجها، من ضغوطات اقتصادية
وربما عسكرية أو أمنية. ومع أنه يمكن معالجتها أو تعويضها بالاستناد إلى تحالفات
أخرى متاحة في المعادلة الدولية، إلا أن شعبنا الذي ستتعزز حينها ثقته وتمسكه
بمؤسسة العرش والملك بالذات، لن يَطلب المواجهة خلال عملية التحول. فالمسائل
المهمة وكل اتفاقيات الذل والدمار يُمكن تجميدها، أو تعليقها بالمصطلح السياسي،
إذا دخلنا في عملية تحول حقيقي، وبحيث تُترك لحين إنجاز التحول، ليتولاها القرار
الشعبي الذي لا قوة تستطيع مواجهة إرادته الحرة.
أمّا الدلالة الثانية، فتترجم بتشكيل حكومة
إصلاح وطني مؤقتة بولاية عامة من تلك الفئة الوطنية من السياسيين الوطنيين؛ المشار
إليها في أعلاه لتقود مهمة الإصلاح.
وبتوفر الشرطين ودلالتيهما تقوم هذه الحكومة
المُحترفة برسم خارطة الإصلاح الشاملة والمطلوبة من الألف إلى الياء والمؤدية
للتحول الديمقراطي نحو نظام حكم نيابي ملكي، ثم تقوم بدراسة وتحديد الاحتياجات
الدستورية لمجمل خارطتها الإصلاحية بما فيها اختصاصات الملك ومزايا الأسرة، وتضطلع
بها لجنة خبراء دستوريين ولمستوى قد يصل لصياغة دستور جديد ينسجم مع تفعيل نظام
الحكم النيابي الملكي الذي يحافظ على عقيدتنا وعروبتنا.
وتستمر خطوات الإصلاح وصولاً لمجلس النواب
الأول الذي عموده الفقري الأحزاب، ويناقش ويقر الإصلاحات وتتمخض عنه حكومة الشعب
التي ستسن القوانين الدستورية. ولا حاجة للتفصيلات الأخرى هنا، فهي معروفة في نظام
الحكم النيابي الملكي.. ولكن.
نضع أمام الملك ولجنة الإصلاح حقيقة أن الأردن
الآن جزء من منظومة أمريكية سياسية- عسكرية، وباتفاقية الدفاع أصبح مقرا عسكريا
أمريكيا وغرفة عمليات دولية. كما أن الدولة مثقلة بمنظومة أمنية هجينة بعقيدتها
وأدواتها وسلوكها المهين، تُدار أمريكياً لقمع وإذلال الشعب. والإصلاح الجاري لا
يمكن احتسابه مع بقاء هذا الوضع إلا إصلاحا أمريكيا، وللمشاغلة الشعبية وصنع مجلس
نواب وحكومة بصلاحيات شاهد الزور الذي يتحمل مسؤولية قرارات خطيرة للمرحلة التي
نقف على أبوابها.
وفي وجه آخر أكثر إحباطاً، فإن المناقلات
العسكرية الأمريكية الأخيرة وجعل مركز ثقلها في الأردن جاءت متزامنة مع عمل لجنة
الإصلاح، فكيف نفسر هذا بغير عمل استراتيجي يُعبر عن تكتيكية الإصلاح وينطوي على
خطة "ب" الأمريكية عند فشل احتواء إيران؟ فبقاء "إسرائيل"
مرهون بإخضاع دول الجوار، التي منها سوريا وحزب الله والمقاومة الغزية، وكلها
مرتبطة بالدعم الإيراني وتشكل تهديدا للكيان الصهيوني. ولا معركة مع إيران بمعزل
عن سوريا، ومن هنا نتساءل: هل الحشد في الأردن مرتبط بسوريا، وللتغيير الأسوأ فيها
بانعكاساته على الأردن؟ وهل التحالف المصري الأردني العراقي سيكون رأس الحربة
الأمريكية؟
أقول لا إصلاح في غياب الثقل الشعبي الواعي
إلا إصلاح أمريكي، ولا بديل أمامنا إلا بصنع شعب للدولة والوطن، وإلا فلا يُلام أي
غازٍ أو مستبد بنا وبوطننا، ولا يَنتظر أردني إصلاحاً يمنحه هوية وطنية ولا ملكية
وطن أو مواطنية دولة بينما هو غير موجود في بوتقة شعب. ومصيرنا رُسم موحداً أرضاً
وسكاناً مع مصير الفلسطينيين، وعلينا أن نتصرف كشعب واحد بوطن واحد ومصير واحد..