آراء ثقافية

"الطباخ" و"غوغل" في ملاعب: اللغة والفقه والعولمة

يلجأ الكثيرون إلى غوغل من أجل الحصول على المعلومة دون التوثق من صحتها- جيتي
يلجأ الكثيرون إلى غوغل من أجل الحصول على المعلومة دون التوثق من صحتها- جيتي

1-
اجتزت للتو -أيها القارئ- المرحلة الأولى من اللعبة؛ إذ إنك وصلت إلى هنا عبر صديقنا العزيز "غوغل"، الذي سنعتمد عليه بشكل شبه مطلق لمواصلة اللعبة، يبقى عليك أن تلتزم بشرطين: المشاركة الفعالة، وتأجيل الاستنتاجات إلى المرحلة ما قبل الأخيرة.


اللعبة بسيطة، والتحدي سهل: كيف تقرأ صفحة واحدة من رواية - ولتكن مثلا "الطباخ" للكاتب السويسري مارتين زوتر، التي ترجمها عن الألمانية: سمير جريس، ونشرها "الكتب خان"، وتستخرج منها أساليب لتطوير مهاراتك ومعارفك اللغوية والثقافية العامة.


2-

هذا نص الصفحة: 

"يا مارافان! قارورة الصودا!"


بسرعة وضع مارافان السكين حاد النصل بجانب شرائح الخضار الرفيعة، وسار إلى الخزانة المُدفأة، واستخرج منها القارورة الساخنة المصنوعة من الصلب الفاخر، وأعطاها لـ "أنطوان فِنك".
كانت القارورة تحتوي على معجون "سابايون" ثوم الدببة، والمُعد لفيليه سمك الإسقمري المُخَلَل.


باستطاعة مارافان أن يراهن على أن "السابايون" سيتهاوى قبل أن يصل إلى المائدة. راقب كيف استخدم "فِنك" المتخصص في المطبخ الجزيئى الحديث ضمغ الزانثان ودقيق بذور الخروب، بدلا من استخدام الزانثان مع دقيق حبوب القوار، وهو ما يُنصح به في حالة صنع الرغويات الساخنة.


3-
نحن الآن في المرحلة الثالثة وعلينا أن نستخرج الكلمات التي لا نعرفها؛ أو لا نفهمها، تماما، ثم نذهب إلى صديقنا العزيز (غوغل) ليساعدنا. ممنوع طبعا المرور على كلمة دون أن نسأل: ماذا تعنى بالضبط، ماذا أعرفه عنها؟، وعلينا الحذر من الوقوع في غواية متاهات صديقنا؛ إذ قد يفضي بنا الأمر إلى الاستغراق التام في تتبع التفاصيل، المطلوب هو التركيز على معرفة أولية كافية لمواصلة اللعب.


أغلبيتنا قد يستخرج كلمات ليست كثيرة؛ النص نفسه كلماته قليلة، وربما تكون هذه الكلمات محل اتفاق غير المتخصصين في الطبخ: سابايون ثوم الدببة، الإسقمري، ضمغ الزانثان، دقيق بذور الخروب، حبوب القوار، الرغويات.


الحدس قد يخبرنا؛ استنادا إلى أبسط خبراتنا عن الطعام، أن سمك الإسقمري، هو المكون الرئيس، وأن الباقي مجرد إضافات، لكننا سنلتزم بالترتيب، ونعطى لكل كلمة دورها في المرحلة الرابعة من اللعبة.


4-
الـ "سابايون" عالم هائل، يرتكز على خفق صفار البيض، ومزجه مع مكونات متنوعة لاستخراج منتجات متنوعة. الأصل إيطالي بلا شك، يعود لأكثر من ألف عام. الوصفة الأكثر تقليدية وشيوعا لصلصة "سابايون" سهلة، فالمكونات هي: ثلاث (3) حبات صفار بيض، يضاف إليها ثلاث (3) معالق (كبيرة) سكر، ويخفقا معا جيدا، ويضاف لهما ست (6) معالق (كبيرة) عصير البرتقال- يمكن أن يكون ليمون-، ويقلب المزيج جيدا، ويخفق، يوضع الوعاء فوق حمام ماء ساخن، يُخفق الخليط باستمرار حتى الوصول إلى درجة حرارة 60 درجة مئوية.


 أما ثوم الدببة، أو الثوم البري، فهو يشبه إلى حدٍ كبير الثوم العادي، إلّا أنّ فصوصه أكبر حجماً وطويلة بعض الشيء، وتتميز بالرائحة النفاذة وخاصة عند هرسها. وهو من النباتات الحولية والمعمرة، والتي تنمو في الأحراج والمروج الرطبة وعلى سفوح الجبال، حيثُ تنمو لتعطي أوراقاً خضراء وأزهاراً وردية، وقد استخدم منذ القدم في علاج الكثير من المشاكل الصحية كونه يتمتع بقيمةٍ غذائية عالية لاحتوائه على مجموعة من الفيتامينات، ومضادات الأكسدة، والزيوت الطيارة.


معجون "سابايون" ثوم الدببة، إذن، عبارة عن مزج وخفق صفار البيض مع قطع ثوم (الدببة)، ربما مع السكر، والنبيذ، ووضع المزيج على نار هادئة لنحصل على مزيج هلامي.


5-
مع سمك الإسقمري؛ كما أخبرنا حدسنا، ندخل في الجد، ونعود من "الثقافة" الغربية إلى تراثنا وواقعنا: العربي والإسلامي. فالبحث عما هو الإسقمري، هذا، سيدخلنا إلى عوالم اللغة والفقه- الجعفري (الشيعي)، والسني- بصورة عارضة. 


الإسقمري سمك بحري، يسمى في سوريا ولبنان وفلسطين: طراخور، وهو نفس ما ورد في كتاب "تكملة المعاجم العربية" للمستشرق الهولندي "رينهارت بيتر آن دُوزِي" (1820- 1883) فبعد أن يذكر أن "اسقلموس: ضرب من السمك"، يذكر "اسقمري: طراخور نوع من السمك".


هل انتهى الأمر؟


يجرنا "غوغل" جرا، لندخل إلى عوالم الفتاوى والأحكام، والفقه، والبداية من: الاستفتاءات عن الأسماك، ويكون السؤال الموجه لفقيه شيعي: بعض أنواع السمك لا يغطي الفلس كل جسمها فهل يجوز أكلها؟، ويكون الجواب: نعم يجوز لك أكلها حتى لو كان عليه فلس واحد.


فلس، ما هو هذا الفلس؟


فَلس: (اسم)، الجمع: فُلُوسٌ. الفَلْسُ: القِشرةُ على ظهر السمكة، وفي (الاقتصاد) عملة نقديّة عربيّة مُستعملة في الأردن والإمارات والبحرين والعراق والكويت واليمن، ويختلف سعرها بحسب البلد. وفى الفقه الفَلْسُ: خاتَمُ الجِزية في العُنُق.


سنعود بعد قليل للمعنى الأخير.


والآن سنواصل النظر في الاستفتاءات عن الأسماك. يجوز أكل السمك، ولو عليه قِشرةُ واحدة، أما لو خلى منها فلا يجوز أكله.


السؤال عن الفَلس، تفريعة من سؤال رئيس: ما هو السمك الحلال أكله، والحرام أكله؟، والجواب: لجواز أكل السمك بأنواعه المختلفة لا بدّ من شرطين: الأول: أن يكون للسمك فلس. الثاني: أن يجزم المسلم أو يطمئن بأن السمك قد أخرج من الماء وهو حي، أو أنه مات وهو في شبكة الصيد. ولا يشترط في صائد السمك الإسلام، ولا تشترط في تذكية السمك التسمية أو ذكر اسم الله عليه، فلو صاد السمك كافر فأخرجه من الماء حياً، أو مات في شبكته أو حظيرته، وكان له فلس، حل أكله.


الفَلس هو الأساس، إذا، في التحليل والتحريم، القِشرةُ هي الحد الفاصل.


دخلنا إلى هنا لأن سمك الإسقمري له فُلُوسٌ (قشور)، فهو حلال، بشرط أن يخرج من الماء حيا.
مع المعنى اللغوي الثالث لكلمة الفَلْسُ، ندخل إلى زاوية من الفقه الشافعي؛ حسبما قادنا "غوغل" انقيادا، حيث استغربنا ما طالعنا من معنى الفَلْسُ: خاتَمُ الجِزية في العُنُق.
نعرف الجزية، ولكن ما هذا الـ "خاتَمُ"، ولمّا يُوضع في "العُنُق".


يسعفنا "غوغل" إذ ننسخ الجملة كما هي: خاتَمُ الجِزية في العُنُق، ونذهب بها إليه، فتكون الإضاءة كالتالي: "وإذا دخل حماما فيه مسلمون أو تجرد عن ثيابه جعل في عنقه خاتم حديد أو رصاص ونحوه." 
من هو؟ 


إنه الذمي، دافع الجزية. وقال الزركشي: الخاتم طوق في العنق.


طال، كثيرا، اللعب مع سمك الإسقمري، فهو العنصر الرئيس في الوجبة، والباقي مجرد إضافات، لكنها قد تكون، أيضا، هامة.


6-
مع صمغ الزانثان ربما نكون قد انتقلنا إلى زمن آخر، وعلاقات وقيم أخرى. فصمغ الزانثان نوع من المواد التي يتم إضافتها إلى الطعام كمُثبت له مثل الصلصة. إنه مادة مخلقة كيمائيا تستخدم بكثرة في الأطعمة المعلبة، صورة التركيبة الكيمائية له قد تستهوي البعض، وقليلون قد يواصلون البحث في المسائل العلمية المتعلقة به.


7-
نعود مع دقيق بذور الخروب إلى منطقتنا وأزمنتنا الكثيفة، لن نتوقف عند "الخروب علاج لـ 11 داءً"، رغم الغواية التي تتمثل في الحديث عن أن الخروب مانع للإصابة بمرض السـرطان، وأنه مفيد في حالات: العجز والضعف الجنسـيين، وزيادة عدد الحيوانات المنوية الحيوية.


 وربما كان البعض يعرف أن الخَرّوب: شجرة دائمة الخضرة، وأن اللفظ العربي انتقل إلى معظم اللغات- الاسم العلمي اللاتيني يشي بالأصل العربي-، والشجرة تنمو بشكل طبيعي في البلدان العربية الواقعة على الشاطئ الجنوبي للمتوسط. وربما عرفوا بعضا من الحكايات الأسطورية، أو الدينية، أو الفلكلورية المتعلقة بها، ولشجر الخروب في فلسطين حكايات وحكايات. 


تغني نساء فلسطين:


هب الهوا ورماني ع الخروبة *** ست الصبايا لفلان مخطوبة
أما الرجال فيرددون هذه الأهزوجة:
هبت النار في رأس الخروبة *** أبو فلان يا حامي العروبة
ومفهوم أن الرجال يستبدلون فلان باسم من يحيونه.


8-
بقي: القوار، والرغويات.


ولأن زراعته بدأت تكون كثيفة، نسبيا، في السودان، فإن القوار يبدو في النتائج الأولى لصديقنا (غوغل) موضوعا سودانيا.


دقيق القوار، إذا، مُضاف غذائي يُستخدم لتكثيف وتثبيت المُنتجات الغذائيّة، كما يُمكن استخدامه كمُكمِّلٍ غذائيّ لاحتوائه على نسبةٍ عاليةٍ من الألياف، ممّا يجعلهُ مُفيداً في الكثير من الحالات الصحيّة.
وهو يستخدم بالأساس كمُضافٍ غذائيّ في العديد من الأطعمة المُصنّعة، وهو مفيدٌ بشكلٍ خاصٍّ في تصنيع الأغذية لأنّه قابلٌ للذّوبان وقادرٌ على امتصاص الماء، ويُساعد في تشكيل الهُلام الذي يُمكن أن يثخن ويربط المُنتجات.


9-
مع الرغويات تكتمل صورة المكونات التي تنتمي إلى الزمن المعاصر، زمن الأغذية المصنعة، وعولمة الذائقة الغذائية، حيث مكونات الطعام الأكثر استهلاكا باتت في قبضة مختبرات ومعامل شركات عملاقة تدير اقتصادا معولما.


فالرغويات هي أشربة تنتج رَغْوَةٌ، رُغْوَةٌ، وهي: زَبَدٌ يعلو السَّائل عند غليانه أو رجِّه أو ذوبان شيء فيه، الصورة الأكثر قربا للممارسة اليومية، هي تلك الفقاقيع التي نراها فور صب المياه الغازية مباشرة، والتي تتبدد في ثوان.


10-
هكذا نكون قد وصلنا إلى المرحلة قبل النهائية من اللعبة، وعليك أن تكملها بمفردك، فلتتم قراءة "الطباخ" مستخدما هذه الطريقة عند كل كلمة لا تعرفها جيدا، وهذا ما سأحاوله بدوري؛ فأنا لم أقلب الصفحة الأولى من نسختي بعد.


التعليقات (0)

خبر عاجل