هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يبدو لي أنّ (بيرم التونسي) كان يحاولُ أن يُضيف إلى الزَّجَل عُمقًا فلسفيًّا، بقَدْر ما كان يقصِد أساسًا إلى التعبير في بساطةٍ عمّا يَجيش في وِجدان الإنسان المصريّ البعيد عن التعقيد. ويبدو أنّ هذه البساطة المقصودةَ انعكسَت على الغنائيّة التي قد يعتبرُها البعضُ مُفرِطَةً، تلك التي تطبعُ أزجالَه
سواءٌ منها ما غُنِّيَ أو ما لم يعرف طريقَه إلى الألحان.
تلك الغنائية التي تجعلنا لا نتخيّل كلماتِه صادِرَةً عن وجدانٍ فرديٍّ، وإنما هو وجدانٌ جمعيٌّ، كأنّ الفلاّحِين وأربابَ الحِرَف والموظَّفِين متحلّقون في حارةٍ مصريةٍ مِن مَطلَع القرن العشرين، يقولُ كلٌّ منهم شطرًا من القصيدة، والضّامنُ لوحدَتها الموضوعيّة والإيقاعيّة أنّ التكوين الثقافيّ لكلّ هؤلاء واحِدٌ وإن اختلفَت أزياؤهم ولكناتُهم. إنها قصائدُ تبدو صادرةً عن جُوقةٍ عملاقةٍ انتظَمَت المِصريّين قبلَ مائةٍ عامٍ أو أقلّ قليلاً، وقد تمثَّلُوا في قَريحَة هذا الشاعر.
في هذه القصيدة التي انسابَ مُرَجَّعُها وأغصانُها على أحد الأوزان الأثيرةِ لديه "مُستَفعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلانْ"، يقتربُ المُقَدَّس المُتعالي من الإنسانيّ اقترابًا واضحًا، فالتّجَلّي الإلهيّ متحققٌ هنا بصِفاتِ الجَمال أساسًا، وهو يُقارِبُ هذا الجَمال من جَمال الخَلق البادي للحَواسّ "القلب يعشق كُلّ جميل/ وياما شُفتي جَمال يا عين"، وينطلق منه إلى نتيجة الإحساس بالجَمال، وهي الحُبّ، فيُبِين عن عَرَضيّة الحُبّ البشَريّ "واللي صدق في الحُب قليل/ وِان دام يدوم يوم ولاّ يومين".
ثُمّ يُفارِق هذا الحُبّ العرَضِيّ إلى الحُبّ الإلهيّ الدائم بدَوام الله "واللي هويتُه اليوم/ دايم وِصالُه دوم"، ولعلّ مفردة (اليوم) هنا تلفِتُنا إلى أنّ القصيدة صادرةٌ عن حالٍ مع الله كأحوال الصُّوفيّة، فليس المقصودُ أنّ الشاعر يهوى الله اليوم ثُمّ يهوى غيرَه غدًا، وإنما هواه اليومَ مطبوعٌ بتلك الصّفات المخصوصة التي انعكسَت على قصيدتِه المتغنّية بالجَمال الإلهي مِن قَريب.
ولعلّ أشطُر "واحد مافيش غيرُه/ ملا الوجود نورُه/ دعاني لبّيتُه/ لحدّ باب بيتُه/ وامّا تجلَّى لي/ بالدمع ناجيتُه" تكرّس هذا القُرب الدافئ في هذه الحال الصُّوفيّة، فالشاعر ممتلئٌ إحساسًا بالوجود الإلهيّ أينَما ولَّى وجهَه، إلى أن يُتَوَّج المُفتَتحُ بلحظة التجلّي التي تُفيضُ دَمعَ المُناجاة.
في الغصن الثاني من "كُنت ابتعِد عنُّه" إلى "سلّم لنا تِسلَم" يضع الشاعرُ الكلماتِ على لسان اللهِ جَلَّ وعَلا، على عادة بُسطاء المصريِّين حِين يُذَكِّرُ أحدُهم غيرَه بالله. وأثناءَ ذلك يمثّل تحَبُّبَ الرَّبّ للخلق بالنِّعَم كأنّه مصداقٌ للأثَر القُدسيّ "أتحبَّبُ إليهم بالنِّعَم ويتبغّضُون إليّ بالمَعاصي"، إلى أن يَختِم هذا الغُصن بالشَّرط العظيم "سَلِّم لنا تِسلَمْ"، فينتقل بالضمير من المتكلم المُفرَد "تشوف جمايلي عليك" إلى ضمير المتكلّمِين "سلّم لنا" مستحضِرًا جِماع صفاتِ الألوهية والربوبيّة، حيث تُهيمِن هُنا صفاتُ الجلال بحُكم السِّياق.
في الغصن التّالي ينتقلُ الكلام إلى جماعة الحُجّاجِ وبينهم الشاعر "دخَلنا باب السّلام/ غمَر قلوبنا السلام"، وهو يُفرِد هذا الغُصن للحديث عن مشهد البيت الحرام بين جِبال مكّة المَهيبة، ثم يرى انعكاسًا لصفوف الحَجيج في الجَوّ فوقَهم، مُمَثَّلاً في أسراب الحَمام "فوقنا حَمام الحِمَى/ عدد نجوم السما/ طاير علينا يطوف/ أُلوف تتابع أُلوف/ طاير يهنّي الضيوف/ بالعفو والمرحمة". والمهمّ أنّ شاعرَنا يُراوِح هنا بين الأُنس بالله ودفءِ قُربِه فيما سبقَ من القصيدة، والأُنس بجُموع المسلمين الحُجّاج في هذا الغصن، ويتخلّص في نهايتِه إلى الحضور الإلهيّ المُحِيط بقولِه عن أسراب الحَمام: "واللي نظَم سيرُه/ واحد مافيش غيرُه".
في الغصن الأخير يتماهى مشهدُ الحَجيج مع مشهد دخول الجَنَّة بتفاصيلِه "جينا على روضة/ هالَّة من الجنَّة" إلى "ياريت حبايبنا/ ينولوا ما نُلنا/ يارب توعدهم/ يارب واقبَلنا"، حتى كأنّ دخول الجنّة يمثّل المرحلة الأخيرة من مراحل رحلة الحَجّ. وهو هنا أيضًا ناطقٌ بضمير جماعة المتكلّمين عن جماعة الغائبِين، ما يزرعُ القصيدة بين الناس في تحلُّقِهم للاحتفاء بموسم الحجّ أو للاحتفال بعودة حبيبٍ لهم من رحلة الحجّ.
* لحن زكريا أحمد
بعد لازمة موسيقية قصيرة في مقام بسته نكار، وهو مقام مركَّب أساسًا من طبع السيكا المرتكِز على درجة (سي نصف بيمول) مجموعًا جمعًا متّصلاً إلى جنس الصَّبا المرتكز على درجة (ري)، ينطلق صوت الشيخ زكريا في الأغنية التي يُقالُ إنه لحّنها عام 1946، هابطًا نغماتِ المقام من (لا) إلى (رِي) في جملة "القلب يعشق كل جميل"، لتتبعَه مباشَرةً جوقة السيدات هبوطًا من (فا) إلى (سِي نصف بيمول) ثم صعودًا إلى الأساس (رِي)، وهنا يُشحَن صوتُ الشيخ بالتوتُّر الناجم عن تتابُع النغمتين (لا – فا دييز) اللتَين تَحصُران البُعد الوافر (نغمة ونصف النغمة) المُثقَل بالحُزن في أعلى المَقام، بينما يجيء صدى الجوقة خاليًا من هذا التوتُّر.
ثم تتبعه الجوقة في الجملة التالية كذلك "وياما شُفتي جَمال يا عين" لكن بنفس الخطوات النغمية المحصورة بين (فا دييز – دو). أما البيت التالي فيغنّيه الشيخ مرةً واحدةً دون تعليقٍ من الجوقة "واللي صدق.. إلى: يومين"، ويبدو لي تصرُّفًا أدائيًّا مُوحِيًا بالاستخفاف بذلك الحُبّ البشَريّ العرَضِيّ المتبدّل. ثم يغنّي "واللي هويته اليوم. دايم وصالُه دوم" نزولاً من (فا) إلى (مي نصف بيمول) إلى (رِي)، ثم عودةً إلى (فا) مع لمس (فا دييز) كحِليةٍ نغمية، وترددها وراءه الجوقة. ثم يُعيد الشيخ الجملةَ وحده هابطًا من الغمّاز (لا) إلى (ري) مُتبعًا إياها بالبيت التالي "لا يعاتب اللي تاب ولا في طبعه اللوم".
وحين يقول "واحد مافيش غيره" يقفز من (دو) إلى (فا) وهو يمُدّ المَدّ الطبيعي في (واحد) دون ترعيد أو حليات نغمية، وكأنه أداء ممتدّ من معرفته بالقاعدة التجويديّة التي تَنهَى عن ترعيد المُدود، وهي لفتة أدائية تشير إلى الوعي القرآنيّ لزكريا أحمد الذي احتفظ للمفردة الدالّة على الوحدانية بهذه القاعدة.
ويصل الشيخ إلى أعلى جنس الصَّبا المرتكز على (ري) في نغمة (ري بيمول) معبِّرًا عن التجلّي الإلهي "وامّا تجلّى"، ليهبط منه تدريجيًّا إلى (ري) القرار. واختيار مقام الصَّبا المسكون بالحُزن – وهو المقام الناقص الذي يبدأ بـ(ري) وينتهي دُونها في (ري بيمول) – يعبّر عن رؤيةٍ للتجلّي الإلهي باعتبارِه دائمًا وأبدًا تجلّيًا غيرَ كاملٍ، فالإحاطةُ بجلال الإله وجَمالِه مستحيلةٌ، وقُصارَى ما يملكُه الراحلُ إلى الله – الحاجُّ في هذه الأغنية – أن ينكمش على ذاتِه مُناجيًا الله بالبُكاء.
يبدأ الشيخ الغصن "مكة وفيها جبال النُّور" متتبعًا نفس لحن المَطلَع. ويلاحَظ أنه يغني أبياتًا لا ترِد في نسخة السنباطي الأشهر، كقولِه "كعبة شريفة عليها ستور/ عالية، جَمالها ينسّي قصور". وحين تصل الأغنية إلى "واللي نظَم سيره" يترك الشيخ هذا الشطر للجوقة ليتفرّغ للتنويع على خطّه اللحني وزخرفتِه. ويختم بالمُرجَّع "واحد مافيش غيره...إلخ" مضيفًا أبياتًا أخرى لا ترِد في نسخة السنباطي "دمعة ودادي بعد البعاد. واشوف جَمال ومحاسن فين؟/ بعد اللي شُفتُه في الحرَمين" وهو يصعد إلى (دو) في أعلى المقام مع مقام الرؤية "بعد اللي شُفتُه" ثم يعود إلى (ري) القرار مع نهاية الجُملة.
مع الغصن الأخير "جينا على روضة هالّة من الجنّة" يتحول الإيقاع إلى المقسوم الراقص مواكبًا للفرحة بنهاية الرحلة في الجنّة، كما أنه يهبط من (لا) إلى (دو) على سلّم (بسته نكار) المركَّب حتى قولِه (هالّة من الـ)، ويصعد (ري – مي بيمول – فا دييز) مع كلمة (الجنّة) كأنه يعرّج على سلّم مقام راحة الأرواح المرتكز على (سي نصف بيمول).
وحين يصل إلى "فيها الأحبّة تنول" يتحول إلى مقام الراست على درجة نَوا/ صُول، ليوغل بذلك في التعبير عن الفرَح. ثم يتحول مع (وفيها نور على نور) إلى مقام راحة الأرواح على درجة (سِي)، مستمرًّا فيه مع "وملايكة الرحمن/ كانت لنا نُدمان"، ثم يعيد هذه الجملة الأخيرة في مقام (راست) على (نَوا)، لينتهي مع الدعاء (ياربّ) عائدًا إلى مقامه الأساسي (بسته نكار).
ولا يمكن أن نُنهي حديثَنا دون الالتفات إلى براعة الشيخ الأدائية وتمكُّنِه من آليات التطريب الشرقي، والحَقُّ أنّ صوتَه قد يبدو أكثرَ اتّزانًا ونصاعةً وفخامةً هنا من صوت أمّ كلثومٍ في نسخة السنباطي الأشهَر، مع مراعاة تقدُّمها في السنّ وقتذاك.
* لحن رياض السنباطي
في مهرجان القلعة للموسيقى سنة 1997، حضرتُ حفلاً لفرقة (يحيى خليل) أحد روّاد الچاز الشرقيّ، وكان يقدّم الأغاني التي يُعيد توزيعَها دون تعريفٍ، ويترُك لذاكرة المستمِعين أن تتعرّف إليها. ولم أكُن قد سمِعتُ (القلب يعشق) مِن قبلُ، على الأقلّ منذُ بدأتُ أعي ما أسمعُه. سمعتُها في هذا الحفل كموسيقى خالصة، عزفَها على القانون (جمال عطيّة). وما حدثَ هو أنني وقعتُ في أسرِ هذه الموسيقى ونما داخلي يقينٌ أنّها لأغنيةٍ صوفيّةٍ أو دينيّةٍ وإن كنتُ لا أعرفُ ما هي. وحين دندنتُها لوالدتي أخبرَتني باسمِها وأكّدّت ما ذهبَ إليه حدسي!
اختار السنباطي للأغنية التي شدَت بها أمُّ كلثومٍ عام 1971 مقامَ البياتي من درجة عُشَيران (سي بيمول) للمطلَع والأغصان، كما جعل إيقاع المقسوم الراقص مهيمنًا على أغلبِها. والجملة اللحنية الأشهر في المقدمة تتكون من سؤالٍ يبدأ من (ري بيمول) صاعدًا إلى (فا) ثم هابطًا إلى (سي بيمول) أساس المقام ومنتهيًا عند (مي بيمول)، وجوابٍ يبدأ من (سي بيمول) صاعدًا إلى (ري بيمول) وهابطًا إلى (صول نصف بيمول) ثم صاعدًا إلى (مي بيمول) لينتهي عند الأساس (سي بيمول). هذه الجملة البسيطة جدًّا، أعترف بعجزي عن معرفة سرّ عبقريتها الآسرة التي تجعلها واحدةً من أجمل دُود الآذان العربية قاطبةً، والتي تُفيض من عينيّ الدموع كلما سمعتُها رغم تطاوُل العمر على أولِ سماعٍ لها.
خلال المطلع يتحول المقام إلى الراست على درجة (مي بيمول) مع جملة "لا يعاتب اللي يتوب"، وهو تحوُّل يواكب الفرحة بسعة المغفرة الإلهية، ويستمر الراست إلى قوله "بالدمع ناجيته" حيث يعود إلى البياتي مقام الأغنية الأساسي.
وفي الغصن الأول يتحول المقام إلى النهاوند على (مي بيمول) مع جملة "ما لك حبيب غيري/ قبلي ولا بعدي"، مواكبًا التقرير الإلهي الرصين لنفي المحبة الحقيقية من أحدٍ من خلقِه لعبده المُخاطَب. ثم يتحول مجددًا إلى راست على (مي بيمول) مع "أنا اللي أعطيتك من غير ما تتكلم" في دعوةٍ ضمنيةٍ للفرح بكرم العطاء الربوبيّ، ويستمرّ الراست وصولاً إلى "سلّم لنا تسلم"، فيخفّف اللحن بهذا الاختيار المقامي الفرِح من جلال الشَّرط الإلهي كما صاغه (بيرم). ويستمر الراست في اللازمة التالية لهذا الغصن.
في غصن "مكة وفيها جبال النور" يتحول مع جملة "دخلنا باب السلام/ غمر قلوبنا السلام" إلى النهاوند على (مي بيمول)، مواكبًا برصانة النهاوند وتجرُّده من التطرُّفات الشعورية لمعنى السّلام الغامر لقُلوب الحجيج في هذا الموقف. وليزيد الموقف تعاليًا على ما قبلَه وما بعدَه أسكتَ السنباطيُّ آلات الإيقاع هنا. ثم انتقلَ إلى الراست على (مي بيمول) مع جملة "بعفو ربّ غفور" مواكبًا الفرحة بالغفران والعفو الإلهيين، واستمرّ الراست مع "فوقنا حمام الحِمى" إلى آخر الغصن حيث عاد إلى البياتي مع نهاية المُرَجَّع "بالدمع ناجيته".
وفي الغصن الأخير "جينا على روضة" نشهد التحول المقامي الأخير من البياتي إلى الراست على (مي بيمول) مع تسليم جملة "تنول كل اللي تتمنى"، ليستمر الراست مع "فيها طرب وسرور/ وفيها نور على نور" إلى أن يعود البياتي مع "وملايكة الرحمن/ كانت لنا نُدمان".
ومِلاك القول إنّ لحن الشيخ زكريا بتمحوُرِه حول مقام (بسته نكار) الذي يبعث في النفس مشاعر اللوعة والحُزن يبدو أقربَ إلى جناح الخَوف وحالِ الإشفاق من فَواتِ القُرب الإلهي. بينما طار لحن السنباطي بجناح الرجاء مع مقام البياتي الدافئ، معبّرًا عن حال الأُنس بعفو الله وقُربِه رغمَ ابتعادِ العبد العاصي.