بدأ المشهد
التونسي بقرارات الرئيس
قيس سعيد الذي جاء إلى السلطة نتيجة الترتيبات الدستورية التي وضعتها ثورة تونس.
هذه القرارات هي تجميد البرلمان ونزع الحصانة عن أعضائه، وإقالة الحكومة، ووضع النيابة العامة تحت إمرته.
وقد انقسمت المؤسسات في تونس حول هذه التطورات التي وصفها الغنوشي رئيس حزب
النهضة (الإخوان المسلمين) ورئيس البرلمان بأنها انقلاب على الدستور والثورة والديمقراطية.
فقد تقبل البعض هذه الإجراءات على أنها إنقاذ للدولة من الصراع السياسي الخفي الذي ينال من هيبة الدولة، بينما أعربت قوى أخرى عن رفضها للقرارات وطالبت الرئيس بالعودة عنها.
ولكن المشهد التونسي الذي رسمته قرارات الرئيس يوم 25 تموز/ يوليو يستلفت النظر فيها عدد من الملاحظات أو الومضات أو التأملات.
الملاحظة الأولى أن جميع أطراف المشهد تتفاعل على خلفية ثورة تونس ( 2010-2011).
الملاحظة الثانية أن الرئيس الذي جمع الصلاحيات في يده بالمخالفة للدستور؛ قد اختلط عليه بين صفته كأستاذ للقانون العام ويساهم بكتاباته في الفقه القانوني وتؤثر أفكاره عادة على القضاة، وصفته الأخرى كرئيس للدولة مكلف بإنفاذ الدستور، ولذلك دعا الرئيس إلى مراجعة قراراته مع عدد من أساتذة القانون العام، وهذا سياق أكاديمي، وأخشى أن يدعو من يتفق معه من أساتذة القانون العام فيطبق مقولة الغنوشي بأنه انقلاب دستوري على الدستور.
الملاحظة الثالثة هي أن الأزمة تكشف عن شلل نظام تونس وانخراط مكوناته في المكائد والمؤامرات، وبذلك تم الانصراف عن قضايا الشعب الحقيقية.
الملاحظة الرابعة هي أن الرئيس وقد واجه معارضة داخلية ودولية؛ اتجه إلى منهج طمانة الجميع بأنه لم يعتقل أحدا أو يجور على الحريات، وهذا التطمينات تختلف عن الواقع.
الملاحظة الخامسة أن تونس لا تزال فيها قوى سياسية حية؛ أهمها الأحزاب والنقابات خاصة نقابة العمال. أما المجلس الأعلى للقضاء فقد رفض قرارات الرئيس وأكد على أن النيابة العامة جزء من السلطة القضائية وأنه حريص على الفصل بين السلطات واستغلال القضاء وفقا للدستور.
هذه الملاحظة بالغة الأهمية، وهي أكبر عقبة في نجاح الاتجاه نحو الدكتاتورية. أما السبب في وجود هذه الضمانة فهو الرئيس الحبيب بورقيبة الذي غرس قيم التعليم والمؤسسات، والذي نُقل عنه أن الشعب المتعلم يثور على الحاكم ثورة حضارية سلمية، وإذا رضي عنه كان ذلك مصدر فخر للحاكم. ولذلك تجنبت النظم المستبدة العربية الاهتمام بالتعليم وعمدت إلى التجهيل والتعتيم.
الملاحظة السادسة أن إصرار المجلس الأعلى للقضاء على عدم استغلال القضاء، وتبعية النيابة العامة للقضاء وليس لرئيس الجمهورية، يشير إلى أن قرارات الرئيس تمكن مراجعتها في دعاوى أمام القضاء.
الملاحظة السابعة هي أن الرئيس التونسي أسند إلى الجيش بعض المهام، من بينها احتلال مبنى البرلمان وعدم السماح له بممارسة مهامه. ويبدو أن الرئيس يدرك جيدا أن الحكم يثير شهية الجيش في الدول المتخلفة، وهي قصة متكررة في نصف الدول العربية وفي مقدمتها مصر.
الملاحظة الثامنة أن إثارة الرئيس التونسي ملف الفساد والأموال المنهوبة أمر طبيعي، لكن توقيته يشير إلى أنه يريد أن يبرر استمرار إجراءاته ويجلب لها الرضا الشعبي. ولكن هذا الاتجاه خطير لأن حركة النهضة قررت مواجهة هذه الإجراءات بالنزول إلى الشارع، خاصة وأن الرئيس تعهد بعدم اعتقال أحد أو مصادرة الحريات.
ويبدو أن تصريحاته في هذا الموضوع هدفها تخفيف انتقادات الخارج لاقتحام مكتب الجزيرة في تونس.
وقد استخدم الرئيس في كلمة غير مبشّرة ولا تتفق مع المناخ الديمقراطي الذي تعهد به؛ إشاعة وهي أن الرئيس يستمد ثقته من التفويض الشعبي الذي أبدته أطراف من المشهد التونسي.
الملاحظة التاسعة أن قطبي المشهد، وهما الرئيس وحركة النهضة، يتجهان إلى المهادنة للتعاون على الخروج من المأزق.
فالرئيس يعتبر أن حركة النهضة هي أكبر تحد لحكمه، وحركة النهضة تريد أن تكون ركنا أساسيا في نظام الحكم استنادا إلى الانتخابات والدستور.
وواضح أن النهضة تعتبر إجراءات الرئيس أكبر إهانة وتحديا لها، فضلا عن أنها اتجاه إلى الدكتاتورية. فالرئيس يعتمد على مؤيدي قوة الدولة والنهضة تعتمد على الشعبوية بأساليب ديمقراطية.
فالنهضة أعلنت أنها ستتراجع مواقفها داخل صفوفها وأنها مستعدة لتنازلات، والرئيس تعهد بالتلطف في آثار قراراته وبعدم المساس بالحريات، واستعداده للحوار.
ولا شك أن الرئيس يدرك مغزى إدانة واشنطن لقراراته وقلق الاتحاد الأوروبي؛ وحثهما الرئيس على العودة إلى المسار الديمقراطي.
فهل تتجه الأطراف إلى
الحوار المثمر؟ وهل الحوار كفيل بتقريب الأطراف ونزع فتيل الصراع؟ وكيف تجنب تونس انفجار المشهد في هذه الظروف الصحية والاقتصادية والاجتماعية الهشة والحرجة؟ وهل تحتاج تونس إلى وساطة خارجية؟ وكيف تحيد تأثيرات الإقليم عليها؟