رغم أني أخرت ذكر الحديث عن الواجبات العملية للأفراد تجاه
المعتقلين والمعتقلات في
مصر، وركزت بداية على واجبات بعض المؤسسات المعنية والهيئات ذات الصلة، إلا أنه يمكنني القول: ما كان لتلك المؤسسات أن تنجح في سعيها، ولا أن تنشط في جهدها، ولا أن تُوفق في عملها، إلا إذا استشعرت خلفها احتشاد جهود الأفراد، فتترست بدعمهم، وتأثرت بحضهم وحثهم، وقويت بجديد أفكارهم، واستمدت طاقة الانتصار على العقبات من وافر حماسهم.
فالنجاح في الوصول إلى باب الزنازين لفتحها، والإمساك بالأصفاد لفكها، وتحرير المعتقلين من عذابات الأسر لا يتحقق في عالم السنن الإلهية إلا إذا قام كل منا بواجبه بالقدر الذي مكنه الله فيه.
وبداية أُحب أن أذكر ثلاثة أمور :
الأول: لا أعلم أن جهداً خاصاً بُذل لتحرير المعتقلين والعمل على إخراجهم، نعم كانت هناك جهود إغاثية، ومناوشات حقوقية، ومناكفات سياسية، وحملات إعلامية، لكن لا أعلم أن مشروعات أطلقت للتحرير، ولا أن جهودا بُذلت للخلاص.
الثاني: إن تحرير المعتقلين ليس وهماً، ولا مجرد حلم وخيال، ولا عبارة عن أمل بعيد المنال، ولكنه قريب بقدر قربنا ممن بيده مفاتيح الفرج. فهو أقرب إلينا ممن بيده مفاتيح الزنازين، ومشيئته نافذة لا مرد لها، وألطافه خفية لا مجال لتتبعها، وقوية لا طاقة لأحد على دفعها، وتصريفه للأمور حكيم لا إحاطة للمخلوقين به.
الثالث: إن بعض المؤسسات والرموز الذين خاطبتهم في المقال السابق قد تداعوا للتنسيق، واجتمعوا للتشاور، وبدت معالم مشرع حقيقي يشارك فيه الجميع بلا استقطاب، ينطلق بلا توقف، يتقدم بلا تلفت، واضح الهدف، لا يسمح بأي استنزاف في معارك جانبية.
مهمتنا:
مهمتنا واضحة لا خفاء فيها، مهمتنا أن نصدق في حمل القضية، وأن نبذل فقط ما نملك من طاقات، وأن نستخدم فقط ما نستطيع من جهد، وأن نستنفد ما لدينا من أدوات.
مهمتنا أن نبايع الله على بذل الوسع في تخليصهم، وأن نتعاون مع كل صادق أياً كانت وجهته في تحريرهم، وألا نستصغر عملاً فربما يكون عند الله هو باب الفرج، وألا نستحقر جهداً فقد يكون عند الله باب القبول.
فالقضية ليست سياسية بحتة، ولا حقوقية خالصة، ولا إعلامية فحسب، ولكنها قبل ذلك وبعده قضية إيمانية، تتمثل في الثقة في تقدير الله ولطفه، وعدم اليأس من فيض رحمته وعطفه واستنزال رحمته ببذل غاية الوسع في عالم الأسباب، والله تعالى يقول "أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ".
واجبنا أن نحول قضيتهم إلى راية لا يغيب عن الساحة إشعاعها، ولا تخفى على الناس معالمها، ولا يمل حملتُها من ثقل تبعتها، ولا يفتر عزمهم بانصراف البعض عنها، أو تيئيس البعض لهم. وليدرك حملتها أنهم أهل الاصطفاء، وحملة الراية الأقدس، والجهاد الأكبر، فليس على وجه الأرض أقدس من الإنسان خاصة المؤمن بربه، فهو أعظم عند الله من الكعبة، فما بالكم بصفوة الله من خلقه، أهل الحق والعدل والعلم وواسع الفضل!!
مسارات العمل:
على كل مسلم ومسلمة أياً كان موقعه وإمكاناته أن يسعى في ثلاثة مسارات لا يحل له أن يتخلف عن واحد منها:
الأول: صدق الالتجاء، بأن يكثر من الإلحاح على ربه والتضرع بين يديه ليل نهار، دون يأس أو قنوط، موقناً بأن الأمور كلها بيده، والأقدار كلها تسير وفق حكمته. فهو سبحانه صاحب مشيئة الفتح، وبيده مقاليد السماوات والأرض، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
ولا يستهينن أحد بالدعاء فيزعم أنه مهمة العجزة!! فهو مخطئ بلا شك، لأن الدعاء باب الفرج الأوسع، والعطاء الأوفر، وإن كان من حيثيات إجابته: الأخذ بالمتاح من الأسباب.
وإن كان الله تعالى لا يحتاج سبحانه الى الأسباب فهو خالقها ومالكها، ولا يؤوده شيء، فأمر الكون كله معلق بكُن: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ".
ولكنه سبحانه وضع قانوناً لا مجاملة فيه ولا استثناء، قال تعالى: "ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن ليَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ". وقال تعالى: "وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً".
المسار الثاني: مسار الإخلاف، وهو من أعظم الأمانات التي في أعناقنا مسئوليتها، فهي إن أضعناها موضع مؤاخذته، ومُستجلب غضبه، ومُستنزل عقابه، والقيام بها من أوسع معالم إرضائه تعالى، والتعرض لمثوبته وإحسانه.
إن إخوة لنا وأخوات قد اختطفهم الطغاة وهم يقفون معنا في صف المطالبة بالعدالة والمساواة، والتحرر من الاستبداد وحفظ كرامة الإنسان، فقيد الباطل حريتهم، ونهب أموالهم، وقطع سبل أرزاقهم، فتوجب علينا مؤازرتهم ومواساتهم في مصابهم، وإعانتهم على الثبات، وحماية أسرهم من العواصف والقواصف.
ومن خلف أسيراً في أهله فقد ساهم في ثباته وعدم انهياره إلى أن ينال الحرية بإذن الله، وكان شريكاً له في الأجر والفضل.
وأدنى درجات الإخلاف أن يكفل كل منا على الأقل أسرة من أسر المعتقلين، والكفالة ليست حصرية في المال وإن كان المال عصب الحياة، ولكنها تتعدى ذلك إلى الكفالة العلمية والتربوية والنفسية، دون التعدي على خصوصيات الأسر والعائلات، فتلك نازلة ليس لها من دون الله كاشفة.
وفي هذا المجال صور من الإبداع لا تُحصى، يمكن أن نستلهم الخبرة من كثير منها. وليس هذا مجرد باب من أبواب الإحسان والبر والصدقات، بل هو باب من أبواب الجهاد، وصدق الأخوة، وأعظم القربات، وأداء الأمانات.
المسار الثالث: حمل رايتهم.. مسار حمل قضيتهم بأن يتحول كل منا إلى منصة تصرخ ليل نهار بمعاناتهم، ولا تمل من نشر قضيتهم، ولا تستصغر كلمة تُكتب، أو صورة تُرسم، أو مقالاً يُسطر، أو خطابا لمؤسسات ورموز في كل يوم بالحق يُمهر، أو قصة للخلق تُروى، أو خطبة في الناس تحيي الهمم.
واجبنا أن نبذل ما لدينا من إمكانات إعذاراً إلى الله تعالى، فما عذر الفنان إذا لم يُبدع كل يوم في استخدام فنه لطرح قضيتهم؟! وما عذر الأديب إذا لم ينثر صباح مساء بفصيح بيانه معاناتهم؟ وما عذر من يملك على وسائل التواصل ثغرة ألا يقذف بها الباطل كل ساعة، وأن يصدح منها بحق الأبرياء في الحرية كل حين؟! وما عذر الصحفي إذا لم يستقص حقائق قضيتهم، ويكشف بأنوار الحق زيف الاتهامات الموجهة لهم؟! وما عذر الأم التي لا تروي لأبنائها كل يوم ملحمة إخلاصهم، وفداحة مصابهم؟!
وما عذر التاجر الذي لا يدعم بما رزقه الله أسرهم، ويمول من حر ماله كل جهد وسعي للعمل على تحريرهم؟!! وما عذر المدرّس الذي لم يغرس قدر استطاعته في نفوس الأجيال محبتهم، ويُخلد في ذاكرة طلابه أسماءهم؟! وما عذر المحامي الذي تقاعست حججه عن المدافعة عن قضيتهم، وتفنيد حجج خصومهم؟! وما عذر المهندس والطبيب والمدير والمحاسب والعامل.. وكل شخص في مهنته ألا يستخدم إمكاناته لإعانتهم، وتخصصه وعلاقاته لنشر قضيتهم، وفضح ما يتعرضون له من مظالم وما أصابهم من جور؟!!
وبتعبير يسير أقولها: كيف يمر عليك يوم ولم تكتب أو تتحدث أو تنشر أو تتكلم أو تدعم؟!! ولماذا لا يكون لي جدول يومي أؤدي فيه بعض ما أوجبه الله عليّ تجاه إخواني وأخواتي، وأحاسب نفسي عليه كل يوم صباح مساء انطلاقاً من قوله تعالى: "ومن أحياها فكانما أحيا الناس جميعاً؟
وأخيراً أقول:
من أراد أن يسير مع ركب التحرير فليبايع الآن ربه، وليصدق قصده وليرتب نفسه للعمل في تلك المسارات دون انقطاع، فإن صدق الله صدقه الله تعالى.
أما إذا لم نقم بواجبنا، وأثقلتنا أشغال هنا وأعمال هناك، فلنتّهم صدق أخوّتنا ولنتهم صدق انتسابنا للحق، ولنتهم صدق إخلاصنا العمل لوجه ربنا سبحانه، ولنوقن أن الله لن يضيع أولياءه، ولكن ستمضي على الناس سنته: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
أما الشباب فلهم واجبهم الخاص، وحديثهم المستقل، ومهمتهم الأعظم، والتي سنتناولها في المقال القادم بإذن الله تعالى.