نظريا أكمل عبد الفتاح
السيسي سيطرته "المطلقة" على نظام الحكم في
مصر. نظريا يعني على "الورق"، وعبر تعديلات دستورية وقوانين، شرعتها مجالس نيابية "منتخبة" (مجلسا النواب والشيوخ)، واستفتاءات "شعبية".
نظريا أصبح السيسي منفردا ومطلق اليد في تقرير أي شأن يخص أي مؤسسة أو هيئة، مهما عظم شأنها، "نظريا".
وبذلك يستحق أن يطلق عليه التعبير الشعبي الدارج، الذي يطلق على الأشخاص الذين يظهرون في الأزقة والشوارع قدرة على ردع أي منافس بمجرد ظهورهم، ولا بد أن الصيحات تصل إليه، وهو منتشٍ بها: يا سيسي يا سيطرة.
في مسار "السيطرة"، كان العائق الأقوى أمام السيسي، وأمام أي شخص يصل لمنصب رئيس الجمهورية في مثل الظروف التي وصل فيها إليه السيسي، هو القوات المسلحة
في مسار "السيطرة"، كان العائق الأقوى أمام السيسي، وأمام أي شخص يصل لمنصب رئيس الجمهورية في مثل الظروف التي وصل فيها إليه السيسي، هو
القوات المسلحة. مفهوم بالقطع أنه دون موافقتها وتدبيرها كان يستحيل عليه أن يحقق ما حققه في مراحل سيطرته الأولى، لكنها، وبطبيعة رابطها القسري مع الدولة منذ 1952، كانت تمثل "تهديدا محتملا" لسيطرته المطلقة، لكنه فعلها عبر ثلاث قفزات هائلة، سنعرض لها تفصيليا، وبدقة قد تسبب بعض الملل، على أن نبقي التحليل لوقت آخر.
كانت هناك عوائق عديدة بالقطع، منها الهيئات القضائية، والإعلام، والجامعات، والأحزاب والقوى السياسية "المدنية"، وغيرها، دون إغفال، بالطبع، لجماعة الإخوان المسلمين ومناصريها. لكن كل هذه العوائق، مع أهميتها، لا تعادل وزن وأهمية وخطورة ورمزية القوات المسلحة، وحين نركز بحثنا عليها نفترض ضمنا أن القارئ لديه معرفة ولو بسيطة بما جرى لكل هذه العوائق الشاخصة أمام السيطرة الفردية للسيسي، بالتوازي مع ما جرى للقوات المسلحة، ولمصر بالمجمل؛ مصر الهيئات والمؤسسات "الرمزية" والفعلية.
سنورد النصوص ونوضح علاقتها بمسارات قريبة لصيقة، وأخرى عميقة الأثر بعيدة في الزمن، نسبيا، وتبدو ملابساتها التاريخية منسية تماما.
الأمر متعلق بثلاث قفزات، في كل عام قفزة:
قفزة 2019 كانت التعديلات
الدستورية، ويهمنا، هنا- والآن، منها ما يتعلق بالقوات المسلحة، فحديثنا عنها بصورة مركزة. فقد وضعت تلك التعديلات المجلس الأعلى للقوات المسلحة فوق كل نص دستوري وقانوني وعرفي عرفه المصريون في العصر الحديث. في القفزتين التاليتين (2020، 2021)، سحب السيسي من المجلس كل قوته وجيّرها لحساب رئيس الجمهورية، وفي مخيلته بالطبع أن ذلك لن يمتد لخلفه، فلن تدوم هذه الوضعية أبدا بعده.
هذا تصوري: السيسي يدرك أن سيطرته المطلقة هذه لن تدوم بعده طويلا، وهو يدرك تماما أن ما قام به "شديد الخطورة للغاية" لكنه ضروري، ضرورة وجود بالنسبة له.
السيسي يدرك أن سيطرته المطلقة هذه لن تدوم بعده طويلا، وهو يدرك تماما أن ما قام به "شديد الخطورة للغاية" لكنه ضروري، ضرورة وجود بالنسبة له
* * *
هذا تصوري، وسوف تكشف نصوص القوانين مدى مطابقة التصور مع الواقع، والنصوص هي:
أولا: القانون رقم 167 لسنه 2020، بتعديل بعض أحكام القانون رقم 232 لسنة 1959 في شأن شروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة، والقانون رقم 4 لسنة 1968 بشأن القيادة والسيطرة على شؤون الدفاع عن الدولة وعلى القوات المسلحة، والقانون رقم 20 لسنه 2014 بإنشاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الصادر في حزيران/ يونيو 2020.
ثانيا: قانون رقم 134 لسنة 2021، بتعديل بعض أحكام القوانين العسكرية ممثلة في القانون رقم 232 لسنة 1959، بشأن شروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة، والقانون رقم 4 لسنة 1968 بشأن القيادة والسيطرة على شؤون الدفاع عن الدولة والقوات المسلحة، وقانون خدمة ضباط الشرف وضباط الصف والجنود في القوات المسلحة بالقانون رقم 123 لسنة 1981.
واضح أن مسار السيسي مع القوات المسلحة يرتكز على مسار "أصلي"، هو مسار جمال عبد الناصر مع عبد الحكيم عامر، فقانونا 2020 و2021 يتضمنان تعديلات على المسارين منذ 1959 حتى 2019.
لنبدأ من 2020، فماذا حدث؟
حدث أن حطم عبد الفتاح السيسي، تماما، السلّم الذي صعد من خلاله إلى رئاسة الجمهورية، وهو في طريقه لتحطيمه حطم سلما أقل شأنا. فقد تضمن قانون 167 (2020) مادة، هذا نصها:
"ولا يجوز للضباط بالخدمة أو من انتهت خدمتهم بالقوات المسلحة الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية أو المجالس النيابية أو المحلية، إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ويجوز لصاحب الشأن الطعن على قرار المجلس المشار إليه أمام اللجنة القضائية العليا لضباط القوات المسلحة خلال 30 يوما من تاريخ إعلان صاحب الشأن به، ويكون قرارها في الطعن نهائيا. ولا يجوز الطعن في قرارات اللجنة أو المطالبة بإلغائها بأي وجه من الوجوه أمام أية هيئة أو جهة أخرى".
قرار لجنة لا يجوز الطعن عليه مطلقا؟
هذه عجيبة "قانونية"، وفلتة "دستورية" تسلب من مواطن مصري حقا أصيلا. لكننا لن نتعمق في التحليل، سنبقى مع النصوص فقط.
العجيبة الثانية، أضافت إلى النص "الدستوري" الذي أضاف للمهام (الطبيعية) المسندة للقوات المسلحة، مهام "صون الدستور وحماية الديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد"؛ مهام جديدة "خارقة للعادة"، فقد أصبح واجبا على القوات المسلحة إبداء الرأي في: "طلب التعديلات الدستورية"، و"مشروعات القوانين المتعلقة بالحقوق السياسية وانتخابات رئاسة الجمهورية والمجالس النيابية والمحلية، بما يُحافظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها وحقوق وحريات الأفراد"، و"مشروعات القوانين المرتبطة بالأمن القومي".
* * *
يبدو كل هذا تعزيزا لقوة القوات المسلحة تجاه مؤسسات الحكم كافة، ووضعها في مكانة تعلو على الدستور والشعب معا، وهي بذلك "ضد" سيطرة رئيس الجمهورية، فكيف حكمنا في البداية أن السيسي أكمل نظريا سيطرته المطلقة؟
الإجابة في نصي المادتين التاليتين من 167 لسنة 2020، فقد عاد تعيين وزير الدفاع ليصبح بإرادة رئيس الجمهورية، "ويكون تعيين وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وفقا للقواعد والإجراءات التي يحددها رئيس الجمهورية"، فهو الذي يحدد القواعد والإجراءات.
بهذه النصوص "القانونية" أصبح "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" بصلاحياته "الدستورية" المذهلة، في قبضة إرادة رئيس الجمهورية
لكن التعيين مرهون بموافقة المجلس؟
فلننظر إلى الإضافة "العبقرية" التي أطلقت أولى صيحات "سيطرة يا سيسي".
فبعد أن عددت المادة أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحسب مناصبهم (عددهم 18 قيادة)، أُضيفت فقرة بسيطة: "ويجوز بقرار من رئيس الجمهورية ضم أعضاء للمجلس من قيادات القوات المسلحة". هكذا أصبح رئيس الجمهورية قادرا بصورة مطلقة على تحديد "الأغلبية" وفقا لإرادته المطلقة، فهو الذي يشكل المجلس، ثم يتحكم في التوازنات داخله وفقا لـ"تقلبات إرادته".
بهذه النصوص "القانونية" أصبح "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" بصلاحياته "الدستورية" المذهلة، في قبضة إرادة رئيس الجمهورية.
* * *
هذه قفزة 2020، فماذا عن القفزة التالية؟
قفزة القانون 134 لسنة 2021 الصادر قبل نحو أسبوعين تضمن الكثير الهائل "الخطورة"، فهناك المواد المتعلقة ببنيان القوات المسلحة، و"القوات الأخرى التي تقتضي الضرورة إنشاءها". وهذه نقطة فنية تحتاج لوقت مخصوص، وبحث أعمق، لكن لدينا ما هو جلي صارخ، ويحتاج لتفصيل "تاريخي".
ففي الفصل الثالث، المعنون "التعيين في الوظائف الرئيسية الكبرى" من قرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة بالقانون رقم 232 لسنة 1959، في شأن شروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة، هناك مادة (16)، التي تنص على: "يكون التعيين في الوظائف الآتية بقرار من رئيس الجمهورية: (1) القائد العام للقوات المسلحة. (2) رؤساء هيئة أركان الحرب وقادة الجيوش أو ما يعادلها. (3) المدير العام لمصلحة السواحل. ويكون تعيين الضباط الوارد ذكرهم بالبندين (2)، (3) من هذه المادة، بناء على ترشيح القائد العام للقوات المسلحة وعرض وزير الحربية".
من المهم ملاحظة أننا مع "232" لسنة 1959، في ظل تأسيس قواعد جديدة لشروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة في الجمهورية العربية المتحدة، أي في الأشهر الأولى من الوحدة بين مصر وسوريا، لذلك نجد في ديباجة القانون إحالات إلى التشريعات الخاصة بتشكيلات وزراة الدفاع السورية، ونلاحظ النص على "ترشيح القائد العام للقوات المسلحة وعرض وزير الحربية"، أي المشير عبد الحكيم عامر.
في المرحلة النهائية من "الصراع" على السيطرة على "القوات المسلحة" بين عبد الناصر وعامر، وبعد غياب عامر، صدر قانون رقم 4 لسنة 1968 بشأن القيادة والسيطرة على شؤون الدفاع عن الدولة وعلى القوات المسلحة، وجرى تعديل المادة 16 من القانون رقم 232 لسنة 1959 في شأن شروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة، ليصبح النص كالتالي:
"يكون التعيين في الوظائف الآتية بقرار من رئيس الجمهورية: (1) رئيس أركان حرب القوات المسلحة. (2) مساعدو وزير الحربية. (3) قادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة.
وتكون مدة التعيين في هذه الوظائف أربع سنوات، ويجوز مدها سنة أخرى بقرار من رئيس الجمهورية".
واضح للغاية الهدف من التعديل، فالقائد العام ووزير الحربية لم يعد لهما أي دور، ثم جرى تحديد مدة التعيين (4 سنوات) وجواز تمديدها سنة أخرى، بغاية "تطمين/ تمكين" القيادات من تطوير القوات المسلحة في أثناء حرب الاستنزاف وإزالة آثار العدوان عقب هزيمة 1967. الغاية واضحة جدا: سيطرة رئيس الجمهورية على القيادة العسكرية، وتطمينها في الوقت نفسه. وقد بقيت هذه القاعدة سارية مع السادات ومبارك، وتحملا تبعاتها، وقد بقيت مع السيسي حتى قبل أسابيع، حين دفع بالتعديل للمجلسين النيابيين، ووافقا عليه. وهكذا ظهرت المادة الجديدة:
"وتكون مدة التعيين في هذه الوظائف سنتين. ويجوز لرئيس الجمهورية مد الخدمة في هذه الوظائف لمدة سنة قابلة للتجديد، وذلك لمن اكتسبوا خبرة ممتازة في أثناء شغلهم هذه الوظائف، ولا تسري في شأنهم أحكام المواد (37، 38/ فقرة 2، 38 مكررا/ فقرة 2) من القانون رقم 232 لسنة 1959 في شأن شروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة".
شاغلو هذه الوظائف (رئيس الأركان، مساعدو وزير الدفاع، قادة الأفرع الرئيسية) أصبحوا بصدور هذا القانون وحتى تغييره؛ تنتابهم بصور واعية أو غير واعية مشاعر شبيهة بمشاعر المتنبي حين قال: "على قلق كأن الريح تحتي.."، فمن جهة خدمتهم محددة بسنتين (ربما لا تكون كافية لقراءة الملفات والخطط والتدرب عليها)، ومن جهة أخرى بيد رئيس الجمهورية مد خدمتهم إلى أن يشاء العكس.
* * *
أما موضوع "لا تسري في شأنهم.."، فيحتاج ذكر تلك المواد المشار إليها لفهم القصد الكلي/ النهائي من التعديل الجديد.
ثلاث مواد، وفقرات في مواد سنذكرها جميعا:
مادة 37: وتكون مدة خدمة اللواء سنتين يحال بعدها إلى المعاش، ويجوز مد خدمته مدة أقصاها سنتان بقرار من القائد العام للقوات المسلحة، ما لم يبلغ سن المعاش قبل ذلك.
مادة 38: تكون الترقية لرتبة فريق بالاختيار المطلق للقائد العام للقوات المسلحة وتصديق رئيس الجمهورية، وذلك بين اللواءات الذين أمضوا مدة سنتين في الخدمة على الأقل بهذه الرتبة.
وتكون مدة الفريق سنتين يحال بعدها إلى المعاش، ويجوز بقرار من القائد العام للقوات المسلحة وتصديق رئيس الجمهورية مد خدمة الفريق مدة أقصاها سنتان، ما لم يبلغ سن المعاش قبل ذلك.
سيكون مما لا يقبل الشك، استنتاج أن الغاية من القفزتين أن يكون التعيين والتجديد وفق إرادة الرئيس، والتمديد لا حدود له، فماذا يمكن ان نتوقع من وضع كهذا؟ الغاية بكل بساطة تجريد القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية (الدفاع) من أية إمكانية لاختيار القيادات العليا للقوات المسلحة، أو بالأحرى تحويله، ومعه المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمساعدين تنفيذيين لإرادة رئيس الجمهورية
المادة (37)، وفقرة (2) من المادة (38) من قانون 232 لسنة 1959، واضحتان، وحين يضاف إليهما نص المادة (38) مكررا فقرة (2) التي جرى إضافتها بقانون 114 لسنة 1964، ونصها كالتالي: "تكون الترقية لرتبة الفريق الأول بالاختيار المطلق لوزير الحربية وتصديق رئيس الجمهورية، وذلك من بين الفرقاء الذين أمضوا مدة أربع سنوات في الخدمة على الأقل بهذه الرتبة.
وتكون مدة خدمة الفريق أول سنتين يحال بعدها إلى المعاش، ويجوز بقرار من نائب وزير الحربية وتصديق رئيس الجمهورية مد خدمة الفريق أول سنتين، ولمدة أقصاها أربع سنوات، ما لم يبلغ سن المعاش قبل ذلك".
فسيكون مما لا يقبل الشك، استنتاج أن الغاية من القفزتين أن يكون التعيين والتجديد وفق إرادة الرئيس، والتمديد لا حدود له، فماذا يمكن ان نتوقع من وضع كهذا؟ الغاية بكل بساطة تجريد القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية (الدفاع) من أية إمكانية لاختيار القيادات العليا للقوات المسلحة، أو بالأحرى تحويله، ومعه المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمساعدين تنفيذيين لإرادة رئيس الجمهورية، عبد الفتاح السيسي.
وهنا تتعالى الصيحات: سيطرة يا سيسي، أو يا سيسي يا سيطرة. وسيحمل الصدى الصيحات إلى كل مكان في مصر، إلى حين.
وهذه الـ"إلى حين" مجرد حدس.