هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
«إن غالبيّة الروايات الجيدة، هي، على نحو ما، سيرة ذاتية» هكذا كان يرى الأديب والمفكر الأردني غالب هلسا (1932- 1989)، أن السيّر الذاتية هي أفضل الروايات، غالب هلسا لم يُدوّن عن نفسه سيرة ذاتية كاملة، لكن كَتب الكثيرون عنه، عن تنقّله بين البلاد مسافرا ومُرحّلا، عن حياته المملوءة بالعمل والكفاح بالقلم والسلاح، هنا نروي أهم محطاته الفكرية والأدبية.
محطات هلسا الثقافية
كانت أوّل صرخة لِغالب هلسا بقرية ماعين بالأردن في عام 1932، تجلّى عند هلسا في مرحلة الابتدائية والإعدادية حسّه الأدبي وإدراكه المعرفي، فبدأ بالاطلاع على مكتبة المدرسة، أصبح يحب ويقرأ الأدب ومن ثمَّ يكتب القصص والمقالات ولم يكُن سنّه تجاوز الـ16 عاما. ومثله مثل بقيّة النابغين وقتها من مصر وفلسطين والأردن ودولٍ عربية أُخرى، كانت الجامعة الأمريكية ببيروت هي المُلتقى التعليمي والفكري والحركي للكثيرين.
التحق هلسا بِقسم الصحافة بالجامعة، ومن حيث العمل السياسي انضم للحزب الشيوعي، وهذا ما أدى إلى اعتقاله بواسطة الأمن اللبنانيّ عام 1950، إلى أن يخرج من السجن في العام التالي 1951، متوجها إلى الأردن مرةً أُخرى، ليُكمل مساره السياسي بانضمامه للحزب الشيوعي الأردني ويلقى أيضا مصير الاعتقال، ويخرج في العام التالي متوجّها إلى العراق لدراسة الحقوق، لكنه لم يلبث فيها كثيرا، وقد رحّلته السلطات العراقية إلى الأردن مرة أُخرى بسبب نشاطه التنظيمي مع شيوعيّ العراق.
كانت مصر الوِجهة بعد الأردن ولبنان والعراق، سافر إليها ومكث فيها لمدة 21 عاما، أتمَّ دراسة الصحافة بالجامعة الأمريكية هناك، ليبدأ مشواره الصحافي والأدبي. عمل غالب في وكالة أنباءٍ صينيّة ثم انتقل للعمل في وكالة ألمانيا الديمقراطية، كما رافق غالب الأدباء المصريين والعرب، حيث كان يلتقي بنجيب محفوظ في مقهى ريش، كذلك الندوات الأدبية التي تجمع نخبة كبيرة من أدباء وصحفيي اليسار كانت في محل ضيافة غالب بشقّته بحي الدقي. في ذلك الحين، أقصد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مكّنت أجواء القاهرة الثقافية هلسا من السطوع في عالم الأدب والصحافة والتنظيمات اليسارية.
هذا السطوع الأدبي والسياسي، أدى إلى اعتقال غالب عدة مرّات في مصر. الأولى في عام 1959، والثانية عام 1966، وقد تعرّض للتعذيب مع المجموعات اليسارية المعتقلة معه حينها، أما الاعتقال الثالث في عام 1968، والأخيرة كانت في أكتوبر من عام 1976 تحت حكم النظام الساداتي، حيث عُقدت ندوة لمناقشة المخطط الأمريكي في الشرق الأوسط، وقد حضر الندوة عدة منظمات عربية مجتمعية وسياسيّة، فضلا عن شخصيات سياسية وعسكرية وأدبية، وكان هلسا هو من نظم الندوة التي انتهت أيامها باعتقاله لمدة شهر ومن ثم ترحيله إلى العراق.
لم يستقر هلسا في العراق طويلا كما استقر في مصر، بفضل المضايقات الأمنية بحق الشيوعيين العراقيين من قِبل حزب البعث الحاكم، فكانت المحطة التالية هي لبنان التي خطاها مرة أخرى عام 1980، حيث عمل في الصحافة، تحديدا جريدة المصير الديمقراطي، كما شارك في أنشطة منظمة التحرير الفلسطينية، فضلا عن وجوده في جبهة المعركة ضد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، إلى أن خرج مع مسلحي الفصائل الفلسطينيين من لبنان إلى دمشق في سبتمبر/أيلول من العام ذاته، وقد استقر في دمشق وأخذ يكتب الرؤى السياسية حول مستقبل الكفاح الفلسطيني فضلا عن استكمال خريطته الأدبية، إلى أن توفى عام 1989.
المثقف والكفاح الفلسطيني
يظهر جليا من تلك المحطات الفائتة لِهلسا أنّه لم يكن طالبا أو صحافيا أو أديبا يُدلي أو يكتب آرائه من أجل الكتابة، بل كان غالب مثقفا مُشتبكا مع المجتمع والسلطة وقضايا التحرير. نظّر هلسا عن الكفاح المسلح الفلسطيني بدايةً من أواخر الستينات بقيادة فتح تحت رعاية منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أبو عمار.
رأى هلسا أن فَلسطنة الكفاح، أي حصر الصراع بين فلسطين وإسرائيل كان شيئا سيئا، وكان من الأفضل أن تعمل منظمة التحرير عن إنهاء هُوية الصراع، واستبداله بصراعٍ عربي وفي القلب من السلاح فلسطيني ضد العدو الإسرئيلي.
وربما ساعد هلسا على بلورة رؤيته على ضرورة عدم فَلسطنة الكفاح، أنّه ولد أردنيا، وقد انتقل بين لبنان ومصر والعراق وسوريا، لاسيّما مصر الذي اكتمل نضج هلسا فيها من حيث العمل الصحافي والأدبي، فضلا عن إدراكه للصراع العربي الإسرائيلي بشكلٍ مُختلف، حيث حضر هلسا في مصر محطاتٍ حرب هامّة، كَالعدوان الثلاثي عام 1956، والنكسة في 1967، وحرب أكتوبر عام 1973.
أيضا، كان هلسا مثل الكثيرين من السياسيين والصحافيين الفلسطينيين الذين انتقدوا قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسهم ياسر عرفات، أبرزهم شفيق الحوت، إدوارد سعيد، إبراهيم أبو لغد وغيرهم.
من ضمن ما انتقد هلسا، هو تحوّل منظمة التحرير الفلسطينية من حركة كفاح مسلح ساعية نحو تحرير فلسطين، إلى دولة أبويّة ترعاها المصالح والعلاقات بين القيادات، يرجع هذا بسبب عدم إدارة التمويل الضخم بشفافية، الذي ضُخّ على المنظمة، لاسيما بعد زيارة السادات للقدس، وتأسيس جبهة الصمود والتصدي لمجابهة إسرائيل بمساعدة عدة دول عربية أبرزها العراق.
كذلك أدى انعدام الشفافية في قيادة المنظمة إلى كوارث عدّة منها خروج الفصائل المسلحة الفلسطينية من بيروت عام 1982، وهذا كان المعقل الرئيسي والأهم للكفاح المسلح الفلسطيني على مدار السنوات الفائتة، بل وكان انتصارا ضخما للإسرائيليين على الثورة الفلسطينية.
وبالرغم من موت هلسا قبل توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، واعتراف كل منهما بالآخر إلّا أن هلسا توقّع كثيرا أن القضية في اتجاهها لعقد تسويةٍ سلمية بين الأطراف، لكنها لا تُرضي الطرف الفلسطيني، كما أن مسؤول حركة فتح في القاهرة، هو من طلب من جهاز الأمن المصري اعتقال هلسا أثناء ندوة المخطط الأمريكي بالشرق الأوسط، وهذا ما أدى إلى ترحيله إلى العراق في عام 1976.
وعن عمرٍ ناهز الـ57 عاما رحل هلسا في دمشق عام 1989، وقد ترك إرثا قيّما من الأعمال المقالية والأدبية، عبرت تلك الأعمال عن النفس والذات والغربة، وعلاقتها بالسلطويّات وتخيّلات السياسية والجغرافيا والأفكار.
وترك هلسا عدة أعمال روائية: (الضحك عام 1971)، (الخماسين 1975)، (السؤال عام 1979)، (البكاء على الأطلال عام 1980)، (ثلاثة وجوه لبغداد عام 1984)، (نجمة 1992)، (سلطانة عام 1987)، (الروائيون عام 1988)... فضلا عن مجموعتين قصصيتين هما (وديع والقديسة ميلادة عام 1969) و(زنوج وبدو وفلاحون عام 1976).