ما زالت التجارب العملية لتداعيات ربيع الثورات العربية تنضح بالعديد من الإضاءات - رغم أجواء العتمة والظلمات التي تسيطر على المشهد العام - على العقول بالحيرة والارتباك وعلى النفوس بالضيق واليأس والإحباط وعلى العلاقات بالتمزق والاشتباك. لكن في محاولة لإحداث كم من الاختراقات وسط هذه الأجواء نطرح حزمة من الأضواء لعلها تنير الطريق لمن أراد مواصلة المسير في هذا الدرب العسير، منها:
أولا: محاولة الترويج لانتهاء دور الجماعات والتنظيمات الإسلامية هي مسار داعم للمستبد الفاسد والمحتل الغاصب سواء بسواء. فما زالت الحركة الإسلامية وفي القلب منها الإخوان تمثل نسبة كبيرة في تشكيل هوى وهوية غالبية الشعوب العربية والإسلامية، رغم حجم العثرات والتعثرات التي كانت وما زالت تعانيها مكونات هذه الحركة.
ثانيا: نسبة القبول الشعبي الكبيرة للحركة الإسلامية مقارنة بباقي مكونات المشهد السياسي المعارض والمقاوم لا تعني قدرة الحركة وحدها على إحداث التغيير المنشود. فالتجربة تؤكد سقوط هذا التصور وتؤكد على حتمية التنسيق والتفاهم بين مكونات المشهد، كما تؤكد حتمية التنمية والتطوير لكل المكونات بما يناسب حجم تحديات الواقع وطموحات المستقبل.
ثالثا: ضرورة التغيير والتطوير داخل مكونات الحركة الإسلامية على مستوى الفكر ولغة الخطاب والقيادات والقواعد، لأنها ما زالت تعاني الازدواجية والانعزال والاستعلاء، وما زال قطاع كبير منها غير قادر على الاندماج، وما زال لا يرى إلا نفسه وجماعته ومشروعه غير الواضح له ولا لغيره.
رابعا: ضرورة مراجعة الحركات والكيانات المدنية بألوانها المتنوعة لتصوراتها الضيقة تجاه الحركة الإسلامية، والانتقال من ميدان الصراع والخصومة، والتي هي في صالح النظم المستبدة، إلى ميدان التنسيق والتفاهم والشراكة.
خامسا: أثبتت التجربة أن الفراغات المترتبة على إزاحة الحركة الإسلامية لم تستطع الحركة المدنية شغلها بقيادة المجتمع للتغيير المنشود، بل شعرت بسعة الثوب عليها وأنها بحاجة لغيرها؛ حفاظا عليها وعلى مشروعها لأنها بمفردها لقمة سهلة المضغ والبلع.
سادسا: مكونات المشهد العام السياسي والحقوقي والإعلامي من أحزاب وجماعات وجمعيات فضلا عن القطاعات الشعبية الحاضنة؛ لم تشكل بعد التيار الوطني اللازم للضغط على نظم
الاستبداد، ولم تحقق الحماية والحراسة الكافية لإرادة الشعب، لأنها باختصار تعتقد أن الإدلاء بصوتها هي مهمتها الأولى والأخيرة، وهذا فهم يحتاج إلى تنمية وتطوير.
سابعا: الترويج والتسويق لهيمنة النظم السلطوية وأجهزتها الأمنية والمخابراتية على مفاصل الدول ومؤسساتها المختلفة؛ ادعاء باطل ومحاولة لكسر ما تبقى من إرادة التغيير لدى عموم النخب والجماهير. فقد رُوجت مثل هذه الأقاويل لمدة عقود في بلدان الربيع العربي، وعندما هبت نسائم الحرية تساقطت الأنظمة المستبدة كالفراشات في نيران الشعوب الغاضبة.
ثامنا: الأنظمة المستبدة لا تملك فكرا ولا رؤية ولا برامج ولا سياسات، لكنها تملك القوى الخشنة والسجون والمعتقلات التي تبنى بديلا للمدارس والمستشفيات والمساكن والخدمات؛ لحمايته من غضب الشعوب. القوة غير العاقلة مسمار في نعش المستبد.
تاسعا: ضرورة انتقال النخب السياسية الإسلامية والمدنية من ضيق الغرف والفضائيات إلى احتياجات الشارع. فالذي يعاني الفقر والبطالة والمرض والحاجة لا تعنيه الشعارات واللافتات، إنما تعنية الإجراءات والنتائج العملية على حياته الشخصية.
عاشرا: أهمية وعي النخب السياسية والقطاعات الشعبية أن الديمقراطية والحريات هي أجواء ومناخات داعمة وليست أدوات تنفيذية فاعلة، مناخات توفر ظهور الكفاءات وتقدم الكفايات وتكافؤ الفرص ليكون الشخص المناسب في المكان المناسب إقامة للعدالة وتحقيق الإفادة الشعب.
وأخيرا: الانحياز لمنظومات القيم الديمقراطية والحريات والحقوق أولى وأرقى من الانحياز لنظام حاكم أو جماعة أو حزب، فالتجارب أثبتت بقاء القيم وزوال الكيانات وإن بلغت القمم.