آراء ثقافية

المدينة والأشجار والطرق والاحتلال أيضا (2-2)

معاهدة تحالف بين مصر وبريطانيا العظمى
معاهدة تحالف بين مصر وبريطانيا العظمى

ختمت مقالي السابق بهذه العبارة: "الأمر ثقافي وحضاري وليس سياسيا، مطلقا. ولتوضيح ما أقصده فأنا بحاجة لمزيد من البحث والوقت، لكني أعتقد أن فكرتي وصلت فيما يتعلق بالمقاربة التاريخية المقارنة"، وكنت قد بدأته بالتعبير عن فزعي من مقاربة صديقي، المغرم بالتشابهات التاريخية، وتأكيده أنه لا بد العودة لبنود معاهدة 1936، لفهم المنطق الكامن وراء عدم اكتراث السلطة في مصر لشكوى الناس من إجراءات إزالة الأشجار والورود من الشوارع والميادين، في الضواحي "الراقية"، في مصر الجديدة والمعادي والزمالك، وهدم بيوت الفقراء، وتجريف الأراضي الزراعية من أجل شق طرق وإقامة جسور جديدة.

إزاء تجاهل شكوى ملايين، إذن، يرى صديقي أنه لا بد من النظر إلى شروط الجيش البريطاني للموافقة على المعاهدة؛ كمقدمة لمحاولة فهم سلوك السلطة حاليا.

هكذا ذهبت إلى الكتاب الصادر في أغسطس/ آب عام 1936، والذي حمل شعار المملكة المصرية، وكان عنوانه "معاهدة تحالف بين مصر وبريطانيا العظمى". في مقدمة الكتاب التي حملت عنوان "تمهيد"، عرض تاريخي مختصر للغاية، لأهم مراحل سعي مصر لنيل استقلالها، ويبدأ (العرض) بهذا النص: 

"في 15 يوليو (حزيران) سنة 1840 عقد "اتفاق لندره" بين الدولة العثمانية وبعض الدول الأوروبية العظمى، وقضى هذا الاتفاق بأن يكون لمصر استقلال ذاتي تحت سيادة تركيا الأسمية".

التمهيد يتتبع أهم المحطات التاريخية في مسار الاستقلال من 1840 إلى 1936، ومنطلق صديقي "النظري" أن نصوص المعاهدة تكشف ما هو خفي من السلوك اليومي للسلطة تجاه "السكان".

 

أسميا نالت مصر الاستقلال، وفي المعاهدة (1936) تأكيد قاطع على ذلك، لكن نصوص المعاهدة تتضمن ترسيخ ذلك "المفهوم"


ومن هنا كان الفزع، ولتبديده، نظرت طويلا في تمهيد الكتاب، وفي نصوص المعاهدة مرة أخرى.

الفقرة التالية في التمهيد تحمل "خديعة" مفهومة، فالكتاب الذي يحمل الشعار الملكي، لا يريد إبراز أي تلميح لمسؤولية الأسرة العلوية، ممثلة في الخديوي توفيق، عن التسبب في الاحتلال البريطاني ، كما تحمل "سذاجة" تاريخية "متأصلة" في النخب التي نمت في ظل الاحتلال، وهذه هي الفقرة المقصودة بنصها: "ولما احتل الإنجليز مصر في سنة 1882 أعلن ساستهم أنه احتلال مؤقت ثم توالت تصريحاتهم الرسمية بأنهم لا ينوون البقاء فيها ولكن يترقبون الفرصة للخروج بشرف. وقد ظلت مصر منذ اليوم الأول للاحتلال تعمل لجلاء القوات المحتلة عنها".

ثم يذكر التمهيد مواقف الدول الأوروبية العظمى: فرنسا (الاتفاق الودي مع بريطانيا (1904)، وتعهد فرنسا فيه بأن لا تطالب بجلاء القوات البريطانية عن مصر)، وألمانيا (ألزمتها معاهدة فرساي (1918) بأن تعترف بإعلان بريطانيا، من تلقاء نفسها، الحماية على مصر)، وتركيا (التي تنازلت في 24 يوليو/ تموز سنة 1923 في معاهدة لوزان عن كل حقوقها على مصر والسودان).

الدول الاستعمارية الثلاث، ومعهما تركيا (صاحبة السيادة الأسمية) ينظرون إلى مصر باعتبارها موقع جغرافي ذا أهمية استراتيجية في الحرب والسلم وصراعات السياسة وتحولاتها، وينظرون إلى من يعيش على هذه البقعة الجغرافية باعتبارهم سكان، لا يستحقون وصف "شعب"، وهم في أفضل الأحوال مجرد "رعايا".

أسميا نالت مصر الاستقلال، وفي المعاهدة (1936) تأكيد قاطع على ذلك، لكن نصوص المعاهدة تتضمن ترسيخ ذلك "المفهوم".

التمهيد يذكر أن "الوفد المصري (حزب الوفد بزعامة مصطفى النحاس) رأى أن الوقت مناسب لعقد محالفة بين مصر وبريطانيا العظمى تحقق استقلال مصر وتصون المصالح البريطانية التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال".

والمصالح البريطانية "واضحة" للغاية، وقد حددتها المادة الثامنة من المعاهدة، التي عرضنا لبعض تفاصيلها في الجزء السابق. وهي تلخص "مفهوم": الموقع/ السكان.

ولأهمية نص المادة في التدليل على صواب مقاربة صديقي سأورد الفقرة الأولى من نص المادة: "بما أن قنال السويس الذي هو جزء لا يتجزأ من مصر هو في نفس الوقت طريق عالمي للمواصلات كما هو طريق أساسي للمواصلات بين الأجزاء المختلفة للامبراطورية البريطانية فإلى أن يحين الوقت الذي يتفق فيه الطرفان المتعاقدان على أن الجيش المصري أصبح في حالة يستطيع معها أن يكفل بمفرده حرية الملاحة على القنال وسلامتها يرخص صاحب الجلالة ملك مصر لصاحب الجلالة الملك والامبراطور بأن يضع في الأراضي المصرية بجوار القنال بالمنطقة المحدودة في ملحق هذه المادة قوات تتعاون مع القوات المصرية لضمان الدفاع عن القنال". 

المصالح البريطانية متعلقة بـ "القنال"، لأنه طريق أساسي للمواصلات بين الأجزاء المختلفة للامبراطورية البريطانية، ثم أن الجيش المصري لا يستطيع بمفرده (من وجهة نظر بريطانيا) أن يكفل حرية الملاحة على القنال وسلامتها.

هذا هو المفهوم "الاستعماري"، والوقائع التالية قد تبرز دقة تقديراته، فقد حدد مدة عشرين عاما للمعاهدة (بقاء القوات البريطانية في القنال)، وتسع سنوات للبقاء في الإسكندرية، وبالفعل بقت القوات في القنال تقريبا نفس المدة، أما في الإسكندرية وما حولها فقد اثبتت وقائع الحرب العالمية الثانية أهمية وجودها الاستراتيجية. لكن دقة التقدير لا تنفي مطلقا المنطق الاستعماري، والنظرة إلى مصر باعتبارها مجرد موقع وليست بلدا (وطنا)، وأن من يعيش عليه مجرد سكان وليسوا شعبا ومواطنين.

 

السلطة تتعامل مع المصريين وممتلكاتهم انطلاقا من ذات المفهوم: هناك مصالح "عليا/ عامة" تقدرها الإدارة، ومن يعترض تلك المصلحة مجرد سكان "قاصرون" عن تقدير وتقييم أي إجراء


الآن، يبدو صديقي مبتسما، وهو يستعيد تلك الواقعة التي جرت قبل أسابيع وكان شاهدا عليها: صديقه (صديق صديقي) هاتفه مستنجدا "عايزين يهدوا البيت"، وهو ما حدث بالفعل، جاء ضابط شرطة وأبلغ السكان أن يتجهزوا لترك مساكنهم (أربعة أدوار، في كل دور شقتين) لأنه صدر قرار إزالة للعمارة، أحدهم طلب صورة من قرار الإزالة، فسخر منه الضابط، وبعد جدل لطيف، أخبرهم الضابط "أنه قرار سيادي"، وعندما استوضحوه، قال: "سيادي يعني من سيادة الرئيس، فقد مر بالقرب من العمارة، بنفسه، ولاحظ أنها تحجب الرؤية عن المنظر الخلاب، فأمر باتخاذ اللازم"، وتم، وبعدها ببضعة أيام ظهرت "الحقيقة": العمارة ليست هي المقصودة، بل غيرها.

الهدم والإزالة، هدم البيوت، ومحو الأشجار والحدائق، تتم بدافع "المصلحة العامة"، وتقديرها يرجع فقط للإدارة، ودون أي مراجعة أو اعتراض أو اي مسار قضائي يكفل التحقق من حتمية وضرورة المصلحة فعليا.

السلطة تتعامل مع المصريين وممتلكاتهم انطلاقا من ذات المفهوم: هناك مصالح "عليا/ عامة" تقدرها الإدارة، ومن يعترض تلك المصلحة مجرد سكان "قاصرون" عن تقدير وتقييم أي إجراء. 

السلطة تبني "جمهورية جديدة"، "بلد تاني خالص"، وهي في سبيلها لتحقيق ذلك تطالب السكان بفعل مناسب لجهدها: الصمت، وتنفيذ التعليمات، فما قيمة الأشجار، والبيوت، والمزارع، والورش، أمام الجمهورية الجديدة، وطرقها "اللي ما حصلتش".

ويتدخل صديقي لينهي "أطروحته": حزب الوفد في مجمل تاريخه كان حزبا إصلاحيا، دُفع دفعا في لحظات التأسيس (ثورة 1919) لخطوات "ثورية" فعلا، بدفع من طلائع الفئات المتوسطة الملكية ومعدوميها، لكنه في المجمل ظل إصلاحيا، المفاوضات هي سبيله لنيل الاستقلال، وبها حقق النحاس باشا ما اعتبرها "معاهدة الشرف والكرامة"، ووقع ودافع عن معاهدة 1936، لكنه وقف في نفس المكان وأسقطتها. ففي مارس/ آذار سنة 1950، وقف في البرلمان المصري خطيبا، وقال: "من أجل مصر قدمت معاهدة 1936، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها"، معتبرا أن القوات البريطانية الموجودة في منطقة القناة قوات محتلة، لتبدأ مرحلة جديدة من النضال ضد الاحتلال البريطاني.

 

اقرأ أيضأ: المدينة والأشجار والطرق والاحتلال أيضا (1-2)

التعليقات (1)
نسيت إسمي
الإثنين، 23-08-2021 03:49 م
'' المدنية الهندية '' للحضارة الإسلامية في الهند نكهة خاصة تجعل ‏الزائر يقف طويلاً وهو يتأمل سحرها، وتضم معالم إسلامية ضخمة تمثل أفضل ما حققته البدائع المعمارية الفنية في الهند، والتي أصبحت شاهداً على التراث الثقافي الإسلامي فيها وجمال الفن الهندي.[ المسجد الجامع ] يرجع تاريخ بناء المسجد الجامع في دلهي إلى العصر المغولي في عام 1054هـ/1644م، وقد استغرق بناؤه 14 عاماً، ويعرف بالمسجد الملكي لشاه جيهان باد. ويعتبر المسجد الجامع من أكبر مساجد الهند على الإطلاق، ومنشآته في الهند تعتبر من آيات الفن في تاريخ العمارة الإسلامية فقط بل في تاريخ العمارة العالمية . ويذكر التاريخ فيما يتعلق بالمسجد الجامع في دلهي، أنه كان معقلا للثوار المسلمين عام 1274هـ/1857م ضد الإنجليز، وبعد إخماد الثورة بوحشية، منع الإنجليز المسلمين من الصلاة فيه حتى عام 1279هـ. [ لال قلعة أو القلعة الحمراء ] أنشأ القلعة الحمراء السلطان أكبر سنة 964هـ/1556م، واستمر بناؤها حتى سنة 1000هـ/1579م، وهي قلعة ضخمة محاطة بأسوار كبيرة، وفي داخل هذا الحصن الكبير أنشئت مجموعة من المباني مثل مسجد موتي، قصور السلطان أكبر والسلطان شاه جيهان. وكانت القلعة الحمراء بمثابة عاصمة المغول حتى نهاية عهد الإمبراطور المغولي، بهادور شاه ظفر، عام 1857م، وتم استخدام القلعة كمعسكر للجيش الإنجليزي حتى استقلال الهند عام 1947.[ تاج محل ] هو ضريح شيده الملك، شاه جهان، من 1630 وحتى 1648 ليضم رفات زوجته الثالثة والتي تعرف باسم ممتاز محل، ويعتبر من أجمل نماذج طراز العمارة الإسلامية، حيث يعرف على نطاق واسع بأنه جوهرة الفن الإسلامي في الهند وإحدى الروائع الخالدة في العالم. ويعد تاج محل من أرقى الأمثلة على العمارة المغولية، وهو يجمع بين الطراز المعماري الفارسي والتركي والعثماني والهندي. وفي عام 1983 أصبح تاج محل من مواقع التراث العالمي لليونسكو، وعمل في بنائه آلاف الحرفيين. ويعرف العالم كله ذلك القبر باسم تلك الزوجة المختصر وهو "تاج محل" وما أكثر مهندسي العمارة الذين يضعون هذا البناء في منزلة تجعله أكمل بناء قائم على وجه الأرض في يومنا هذا؛ وقد وضع تصميمه ثلاثة من رجال الفنون: فارسيّ يدعى "أستاذ عيسى"، وإيطالي يدعى "جيرونيمو فيرونيو" وفرنسي يسمى "أوستن دي بوردو"؛ ولم يُسْهم في فكرته هندي واحد، فهو بناء لا هندوسي من أوله إلى آخره، وهو إسلامي خالص؛ حتى مهرة الصناع جيء ببعضهم من بغداد والآستانة وغيرهما من مراكز المِلَّة الإسلامية . [ المدنية الهندية ] على هذا الأساس وحده ينبغي أن ننظر إلى المدنية الهنديةـ أعني على أساس أنها تعبير عن نفوس شعب "وسيط" اعتبر الديانة أعمق من العلم، ويكفيها لتكون أعمق منه، أن سلم منذ البداية بالجهل البشري الذي لازم الإنسان منذ الأزل، وبغرور الإنسان قدرته؛ في هذه التقوى يكمن ضعف الهندوسي وتكمن قوته على السواء: فيه تكمن خرافته ووداعته، ويكمن ميله إلى الانطواء على نفسه ونفاذ بصيرته؛ ويكمن تأخره وعمقه، ويكمن ضعفه في القتال وبراعته في الفنون؛ ولا شك أن مناخ بلاده قد أثر في عقيدته الدينية وتعاون كلاهما على إضعافه؛ ولهذا استسلم في يأس المؤمن ببطش القضاء، للآريين والهون والمسلمين والأوربيين، ولقد عاقبه التاريخ على إهماله للعلم؛ فلما أخذت مدافع "كلايف" المتفوقة على أسلحتهم، تطيح بالجيش الأهلي في معركة بلاسي (1757) كان في قصفها إعلانٌ بالثورة الصناعية، وسنشهد في عصرنا تلك الثورة، وقد أصابت نجاحاً في الهند كما وُفِّقَتْ في تسجيل إرادتها وفرض طابعها على إنجلترا وأمريكا وألمانيا وروسيا واليابان، فسيكون للهند كذلك رأسماليتها واشتراكيتها، وسيكون فيها أصحاب الملايين وسكان الخرائب الوبيئة؛ لقد أُسدل ستار على المدنية الهندية القديمة، إذ أخذت تلفظ أنفاسها الأخيرة حين جاءها البريطانيون. لو صادفك الحديث من قبل عن واحدة من أطول الفترات الاستعمارية في التاريخ ، و هو استعمار بريطانيا لدولة الهند ، فقد يهمك فيلماً يحكي واحدة من حوادث المواجهة التي شهدتها تلك الحقبة ، حيث يدور الفيلم [ GUNga Din ] المتثج في عام 1939 عن ثلاث جنود بريطانيين ، يرغب أحدهم في ترك الخدمة و الزواج من حبيبته ، بينما يهتم الآخرون بالقيام بمهمهم العسكرية . رجال في الهند في القرن التاسع عشر ، يجب على ثلاثة جنود بريطانيين وحامل مياه محلي أن يوقفوا إحياء جماعيًا سريًا لعبادة ( THuggE ) القاتلة قبل أن تتمكن من الهياج عبر الأرض. إما إن كنت من هواة المعارك العسكرية و مشاهدة المواجهة ، فلن يبخل الفيلم عليك بما تفضل ، و يقوم ببطولة الفيلم كاري جرانت و جون فونتاين ، و أخرجه جورج ستيفنز • اقتباس بارز: "هل سأفعل" عندما أخبر أحد المحاورين أن "الجميع يرغب في أن يكون كاري جرانت (ولد أرشيبالد ألكسندر ليتش ؛ 18 يناير 1904 ـ 29 نوفمبر 1986) كان أحد أكثر الممثلين الأمريكيين نجاحًا في القرن العشرين. شق طريقه للخروج من حياة منزلية غير سعيدة في بريستول ، إنجلترا ، من خلال الانضمام إلى فرقة من الكوميديين البريطانيين ، ثم العبور المحيط الأطلسي ليجرب يده في فودفيل قبل أن يصبح حضورًا رقيقًا للشاشة وأحد رواد هوليوود المفضلين .