ما إن أعلن
السيسي مؤخرا خلال مؤتمر إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان عن قبوله لفكر
الإخوان؛ قارنا ذلك ببعض الشروط التي تفرغ العرض من مضمونه، وهو ما عده البعض خطوة على طريق مصالحة أو تسوية محتملة، حتى عاد السؤال مجددا: وهل لا يزال الإخوان يمتلكون أوراق ضغط على النظام تجبره على التفاوض معهم؟ السؤال يُطرح بصيغة استنكارية وليست استفهامية في الغالب، بمعنى أنه يتضمن إجابته بالنفي لامتلاك أية أوراق، فهل هذا الاستنتاج صحيح أيضا؟
بغض النظر عن إشارات رأس النظام التي هي في تقديري متناقضة تقول الشيء وعكسه، أو تقول الشيء وتفعل عكسه، وخير شاهد على ذلك إعلانه عن استراتيجية جديدة لحقوق الإنسان ثم في اليوم التالي إعلانه عن بناء مجمع سجون جديد بدلا من الإفراج عن آلاف السجناء المحبوسين ظلما، أو حتى حديثه المسهب عن خطورة الإخوان على المجتمع منذ ٩٠ عاما ثم إعلان قبوله بفكرهم في نفس الجلسة التي أعلن فيها تلك الاستراتيجية.. أقول بغض النظر عن كل ذلك يبقى طرح السؤال في شكل استفهامي أمرا مهما حتى نستكشف أفق ومكانات الحل والتسوية.
يبدو الإخوان في لحظتهم الحالية وبعد ثماني سنوات من الانقلاب العسكري؛ في أضعف أوضاعهم التنظيمية والشعبية، وهي حالة تشبه حالتهم عقب اعتقالات ١٩٥٤ وما تلاها عام ١٩٦٥وحتى منتصف السبعينات من القرن المنصرم. فقد استخدم النظام الحاكم كل قوته الغاشمة ضدهم، في محاولة منه للإجهاز التام عليهم، وتركهم أثرا بعد عين.
يبدو الإخوان في لحظتهم الحالية وبعد ثماني سنوات من الانقلاب العسكري؛ في أضعف أوضاعهم التنظيمية والشعبية، وهي حالة تشبه حالتهم عقب اعتقالات ١٩٥٤ وما تلاها عام ١٩٦٥وحتى منتصف السبعينات من القرن المنصرم
ولا ينكر الإخوان أنفسهم أو غيرهم قسوة الضريبة التي دفعوها قتلا واعتقالا وتشريدا، وملاحقة وفصلا من الوظائف، ومصادرة للأموال والممتلكات، وكل ذلك ضرب مفاصل قوة الإخوان في مقتل. وفقدت الجماعة الكثير من زخمها الشعبي بفعل الأذرع الإعلامية الجبارة للنظام والممولة بسخاء من دول الثورة المضادة، كما تعرض الوضع التنظيمي للجماعة لمشاكل كبيرة بسبب الانقسامات الداخلية حول أساليب مواجهة النظام؛ بين المقاومة السلمية التي تمثل النهج التاريخي للجماعة، والتي أكدها مرشدها الدكتور محمد بديع في آخر خطاب له من منصة رابعة مطلقا شعار "سلميتنا أقوى من الرصاص"، وبين آخرين رأوا أن منهج السلمية لا يصلح لمواجهة نظام عسكري غاشم. كما تضمن الخلاف التنظيمي الداخلي أبعاداً أخرى حول طريقة الإدارة والالتزام بالنظم واللوائح.. الخ.
عقب الانقلاب العسكري وخلال حياة الرئيس مرسي في محبسه، تمسك الإخوان بقوة بورقة الشرعية وعضّوا عليها بالنواجذ. وقد كان ذلك موقفا مبدئيا تسبب في وقوع بعض المشاكل مع بعض حلفائهم الذين كانوا يقدمون تصورات أكثر مرونة في هذه القضية؛ ولكنها لم تكن تلق استحسان الإخوان في الغالب. وإضافة إلى هذا الموقف المبدئي فقد كانت ورقة الشرعية هي أكبر أوراق الضغط الملموسة بيد الإخوان وحلفائهم حتى وفاة الرئيس مرسي رحمه الله، وبوفاته أعلن الإخوان أن الشرعية عادت إلى الشعب، وبالتالي سقطت من يدهم هذه الورقة.
كما كان الحراك الميداني الذي عم العديد من المحافظات عقب الانقلاب ورقة ضغط أخرى قوية بيد الاخوان، لكنهم ما لبثوا أن فقدوا هذه الورقة بمرور الوقت، فليس من المنطقي أو الطبيعي أن تستمر التظاهرات في الشوارع لسنوات متواصلة في مواجهة العنف المفرط لقوات أمن النظام من ناحية، وفي ظل غياب أفق للانتصار من ناحية أخرى.
مع فقدان تلك الأوراق المهمة يبقى السؤال قائما: هل لا يزال بيد الإخوان أوراق ضغط في مواجهة نظام السيسي؟
الورقة الثالثة التي فقدها الإخوان هي تراجع الاهتمام الدولي بقضية الديمقراطية في
مصر مع ظهور قضايا دولية أكثر أهمية وسخونة، بل بدأ النظام المصري يستعيد ما خسره على الساحة الدولية تباعا، فاسترد موقعه في الاتحاد الأفريقي بعد تجميد لمدة عام، واستقبلت العديد من العواصم المهمة رأس النظام وأركان حكمه، ووفرت لهم حصانات دبلوماسية في مواجهة تحركات قضائية للإخوان في الخارج.
مع فقدان تلك الأوراق المهمة يبقى السؤال قائما: هل لا يزال بيد الإخوان أوراق ضغط في مواجهة نظام السيسي؟
في تقديري لا يزال بيد الإخوان ورقة رئيسية تتفرع عنها أوراق فرعية، هذه الورقة الباقية هي ورقة الاستقرار، فحتى الآن لا يتمتع النظام المصري باستقرار كامل، أو ضع طبيعي كما هو الحال في الدول والانظمة المستقرة، يكفي أن رأس النظام ليس له عنوان سكن معروف مثل أي حاكم، ويكفي أن نعرف أن مصر لا تزال ضمن الدول غير المستقرة سياسيا وأمنيا، حيث تستمر بل تتصاعد حالة الاحتقان الشعبي التي تنذر بانفجارات شعبية محتملة ضد الأوضاع المعيشية والسياسية الحالية، وكذا استمرار العمليات الإرهابية في سيناء رغم كل الحملات التي جردتها الدولة ومنحتها حق استخدام كل القوة الغاشمة.
هذه الحالة من عدم الاستقرار السياسي نتيجة غياب الحرية والديمقراطية وتواصل عمليات القمع المفرط؛ تتسبب بدورها في خوف الاستثمار الأجنبي والسياحة الخارجية، وهما من أهم مصادر الاقتصاد المصري في الظروف الطبيعية والمستقرة، لكنهما - أي الاستثمار الأجنبي والسياحة الخارجية - يحجمان حاليا عن مصر ما يفقدها موردين كبيرين، ولن يعود هذان الموردان إلا بوجود استقرار حقيقي في مصر يشعر به المستثمر والسائح، وليس أبواق التطبيل للنظام، وهذا الاستقرار المنشود لن يتحقق إلا عبر مصالحة وطنية جامعة تعطي كل ذي حق حقه.
رغم أنه خاض انتخابات صورية لدورتين ويستعد للثالثة، إلا أن المشير السيسي لا يزال يشعر بافتقاده إلى شرعية حقيقية تتحقق نتيجة رضا شعبي تعكسه انتخابات نزيهة ومنافسة حرة، ولذلك فإنه يعوض فقدان الشرعية الحقيقية بشراء رضا العواصم الكبرى عبر صفقات عسكرية أو اقتصادية تمثل رشاوى مقننة
رغم أنه خاض انتخابات صورية لدورتين ويستعد للثالثة، إلا أن المشير السيسي لا يزال يشعر بافتقاده إلى شرعية حقيقية تتحقق نتيجة رضا شعبي تعكسه انتخابات نزيهة ومنافسة حرة، ولذلك فإنه يعوض فقدان الشرعية الحقيقية بشراء رضا العواصم الكبرى عبر صفقات عسكرية أو اقتصادية تمثل رشاوى مقننة. وهذه الصفقات غير ذات الجدوى للاقتصاد أو المواطن المصري تتم بالمزيد من القروض الدولية، كما يعمد النظام إلى إطلاق مشاريع ضخمة بعضها غير ذي جدوى اقتصادية بل يمثل استنزافا للموارد الوطنية، مثل تفريعة قناة السويس التي اعترف السيسي نفسه أن الهدف منها كان رفع الروح المعنوية للشعب!! هذه الديون الدولية المتصاعدة والتي جاوزت ١٥٠ مليار دولار (بعض الروايات ترفعها فوق ذلك بكثير) لا تستطيع إمكانيات الدولة الحالية أو المنظورة سدادها، وتبقى طوقا في أعناق أجيال مقبلة، ولو كان النظام في وضع طبيعي لما اضطر لذلك، ولما تحملت تلك الأجيال المقبلة بهذه الأعباء.
انسداد الأفق السياسي وتصاعد الاحتقان وغياب الاستقرار يدفع أيضا إلى الهجرة، سواء شرعية أو غير شرعية والموت وسط أمواج المتوسط، كما يوفر البيئة المناسبة لازدهار العنف والإرهاب الذي يدفع الوطن كله بمؤيديه ومعارضيه ضريبته.
إن مصالحة وطنية حقيقية كفيلة بتحقيق الكثير لمصر وطنا وشعبا، فهي تعيد الاستقرار المنشود الذي يعيد بدوره عجلة الاقتصاد الحقيقي للعمل بكل كفاءة ويعيد الاستثمارات والسياحة الخارجية، كما أنها توفر الأمن والطمأنينة للاستثمارات الداخلية لتخرج ما حفظته "تحت البلاطة" خوفا من المصادرات التي حدثت بالفعل للكثير من رجال الأعمال ولممتلكات آلاف المصريين المعارضين للنظام مِن الإخوان وغيرهم. كما أن مصالحة وطنية حقيقية قادرة على وقف الابتزاز الدولي لمصر استغلالا لحاجة النظام إلى أولئك المبتزين، كما أنها ستحسن كثيرا صورة ووضع مصر دوليا، وتعيدها للمكانة التي تليق بها بين الأمم، بدلا من وضعها الحالي الذي لا يمكنها من الدفاع عن حصتها التاريخية في مياه النيل، ويجعل إثيوبيا تتلاعب بها في المحافل الدولية.
حديث المصالحة في مصر يظل حديثا افتراضيا حتى اللحظة، ترغب فيه أطراف كثيرة يهمها مصلحة الوطن والشعب، لكن كرة المصالحة بشكل أساسي بيد النظام الحاكم الذي لا يمل من إرسال رسائل متضاربة، حسب تغيرات الأوضاع الإقليمية والدولية، وما يتعرض له من ضغوط ظاهرة أو خفية
يرى الكثيرون أن البيئة الإقليمية والدولية الحالية رافضة لوجود الإخوان المسلمين ومشاركتهم في الحكم، والحقيقة أن هذا الحديث ينطبق بدرجة كبيرة على رعاة الثورة المضادة، وهذا أمر طبيعي، وقد نجحت جهودهم في تقليص نفوذ الإخوان وغيرهم من قوى الثورة والتغيير في المنطقة، وكان أحدث المحطات في المغرب ومن قبلها تونس. لكن لا يمكن التسليم بالأمر على إطلاقه، إذ يمكن النظر إلى ما حدث باعتباره محض جولة، وليس الجولة النهائية في معركة التغيير، كما أن الحضور الإسلامي أو الإخواني لا يزال قائما في أماكن أخرى، ولا تزال جماعة الإخوان تتمتع بحضور في أكثر من ٧٠ دولة، ما يمثل قوة ناعمة كبيرة. ورغم أن النظام المصري وحلفائه الخليجيين صنفوا الجماعة "إرهابية"، إلا أن العالم لم يقبل هذا التصنيف رغم المليارات التي أنفقتها السعودية والإمارات لتحقيق هذا الغرض.
حديث
المصالحة في مصر يظل حديثا افتراضيا حتى اللحظة، ترغب فيه أطراف كثيرة يهمها مصلحة الوطن والشعب، لكن كرة المصالحة بشكل أساسي بيد النظام الحاكم الذي لا يمل من إرسال رسائل متضاربة، حسب تغيرات الأوضاع الإقليمية والدولية، وما يتعرض له من ضغوط ظاهرة أو خفية. ولعل رد المهندس يوسف ندا، الرمز الإخواني الكبير، على إشارات السيسي يمثل اختبارا حقيقيا لتلك النوايا، ولعل الإشارة الأكثر صدقا في ذلك تكون ببدء الإفراج عن المعتقلين وتحسين أوضاع باقي السجناء حتى خروجهم، ووقف أحكام الإعدام، وفتح حرية الإعلام والتعبير.
twitter.com/kotbelaraby