تَمّ تداول الكثير من النعوت لوصف ما حصل لحزب
العدالة والتنمية، من قبل أعضائه أنفسهم، ومن لدن العديد من الإعلاميين، والمحللين السياسيين، مغاربة وأجانب. فقد نظر"الإسلاميون" إلى النتائج التي تم الحصول عليها على أنها "نكسة" و"انتكاسة"، ومنهم من حسبها "نكبة"، كما اعتبر غيرهم من المغاربة بأنهم تعرضوا لـ"عقاب انتخابي" من قبل الكتلة الناخبة، بما فيها أولئك الذين دعموهم وصوتوا لصالحهم في
انتخابات عامي 2011 و2016.
وهناك من اعتمد لغة التشفي، لا سيما في وسائل التواصل الاجتماعي، والتعبير عن الارتياح والفرح لخروج "
الإسلاميين" من حلبة التنافس السياسي منكسرين ومترهّلين، بل ذهب البعض إلى أن هزيمتهم الانتخابية شكلت آخر مسمار في نعش موتهم السياسي والتنظيمي، وأنهم لن يقدروا على استرداد قوتهم ومكانتهم في الزمن المنظور.
يصعب موضوعيا الحديث عن نصيب حزب العدالة والتنمية في اقتراع 8 أيلول/ سبتمبر 2021 بلغة الوثوقية واليقين والإطلاقية، لاعتبارات موضوعية أهمها عدم وجود ما يكفي من الأدلة القطعية والثبوتية عن سير العملية الانتخابية برمتها، وعن طبيعة الاستعدادات التي سبقت الاقتراع، كما لا توجد دراسات ميدانية (إمبريقية) عن السلوك التصويتي في الاقتراع الأخير. لذلك، يحتاج الأمر إلى مسافة من الزمن لاكتمال كل هذه العناصر التي تحول دون فهم ما جرى فهما موضوعيا، بعيدا عن المواقف المنحازة والأحكام المسبقة. بيد أن بالإمكان تقديم عناصر أولية لتفسير ما حصل لحزب العدالة والتنمية، وهل يشكل ذلك "موتا سياسيا حقيقيا" للإسلاميين؟ أم كبوة سينهضون منها، وقد تشكل لهم فرصة تاريخية لإعادة صياغة مشروعهم السياسي والاجتماعي، الذي طالما "بشروا" به حين دخولهم العمل الحزبي الشرعي، ووعدوا بتطبيق بعض مفاصله عند انتقالهم إلى قيادة العمل الحكومي منذ العام 2011؟
نُقدر أن التراجع اللافت للانتباه الذي ألمّ بحزب العدالة والتنمية راجع لأسباب موضوعية ذات صلة بسياق تجربة قيادة "الإسلاميين" للعمل الحكومي خلال عشر سنوات (2011-2021)، وله علاقة أيضا باعتبارات ذاتية خاصة بالحزب ذاته، من حيث فهمه للسياسة وممارستها، وعلاقته بالمجتمع وتطلعاته، وبارتباط نخبة الحزب بالسلطة وجاذبيتها ومغرياتها، دون نسيان تأثير السياق الإقليمي والدولي على مسار التجربة منذ بدايتها.
فمن جهة السياق الموضوعي، لا ننسى أن الحزب فاز في انتخابات 2011 و2016 بأغلبية أعضاء مجلس النواب، وهو ما أهله لقيادة الحكومة تنفيذا للفصل 47 من الدستور
المغربي لعام 2011. غير أنه، في المقابل، لم يؤهله فوزه لأن يشكل حكومة لوحده، أو حتى من حزب أو حزبين، بل حتم عليه الطابع الفسيفسائي لنتائج اقتراع مجلس النواب أن يبحث عن تحالف حكومي من عدة أحزاب، قد لا تجمعها بالضرورة مرجعية أيديولوجية وقيمية مشتركة وموحدة، وهو ما ساهم في تقييد مبادراته.
كما أن أداءه على امتداد العشر سنوات، كان ثمرة مشاركة واقتسام مع كل مكونات هذه التحالفات، وإن كان هو المسؤول عن رئاسة الحكومة وقيادتها. وإذا أضفنا إلى هذا طبيعة توزيع السلطة في الوثيقة الدستورية المغربية، حيث يمتلك رئيس الدولة (الملك) مفاتيح السلطات الاستراتيجية، يمكننا تقدير السياق الذي حكم التجربة خلال ولايتين تشريعيتين اثنتين. وعلى الرغم من وجاهة هذه الاعتبارات، فإن رئيس الحكومة في الدستور الجديد خلال ولايتي السيدين "عبد الإله بنكيران" و"سعد الدين العثماني"، لم يمارس كامل صلاحياته الدستورية، ولم يساهم، بما يكفي، في مراكمة طفرات إيجابية من شأنها تعزيز وتقوية مكانة رئيس الحكومة، بل كان يظهر رئيس الحكومة، لا سيما في الولاية الثانية، شخصية ضعيفة ولا تأثير له في ما يجري في البلاد.
أما من جهة الاعتبارات الذاتية الخاصة بالحزب نفسه، فيمكن حصرها في ثلاث فجوات أضرت بسمعة الحزب، وأضعفت قاعدته الشعبية. تتعلق الفجوة الأولى بابتعاد الحزب عما اعتبره "صفاء المرجعية والرؤية"، والتي طالما صاغها في خطاباته وبرامجه وتصريحات قادته في مصفوفة من القيم..
فقد أثبتت التجربة أنه كلما تقدم الحزب في ممارسة السلطة كلما ابتعد عن "طهرانيته" ونقاوة مرجعيته، التي جعلت منه حزبا متميزا عن باقي الأحزاب، وحفزت جمهورا واسعا على دعمه والتصويت لصالحه. والأفعال والوقائع الثابتة في الممارسة تؤكد حقيقة هذه الفجوة أو الانفصام بين المُثل والممارسة كما حصلت في الواقع. تتكامل مع هذه الفجوة فجوة أخرى، تتعلق بانفصال أداء الحزب وسياساته عن تطلعات المواطنين، لا سيما الفئات المتوسطة والفقيرة. فقد أشرف حزب العدالة والتنمية على سياسات اجتماعية أضرت بالمواطنين لم يقدر أي حزب قبله على الإقدام عليها، بل دافع عنها واعتبرها إنجازات مضيئة تحسب في رصيده. والأمر الثالث، أو الفجوة الثالثة، تتعلق بالتوقيع على التطبيع مع إسرائيل، وهو الذي ما انفك يعتبر "التطبيع مع إسرائيل خيانة".
ربما يصعب توقع إلى أين سيسير حزب العدالة والتنمية بعد هذه
الهزيمة، وهل سيتعافى من آثارها العميقة، ومتى سيقدر على استعادة نشاطه التنظيمي والسياسي. ما نعتقد برجاحته أن الطلب على تنظيم حامل قيم الإسلام والمدافع عنها سيستمر، بحسبه طلبا اجتماعيا، أي نابعا من المجتمع، لكن هل يقدر الحزب على استعادة نشاطه بنفس نخبته، ورؤيته، وممارسته؟ هذا ما نستبعد حصوله في الزمن المنظور. يحتاج حزب العدالة والتنمية إلى ثورة على نفسه، كما يحتاج إلى ثقافة سياسية جديدة تجعل فهمه للسياسة والمتغيرات الفاعلة فيها فهما أقرب إلى العقل منه إلى الوجدان.