مع تزايد الضغوط من قبل عشرات المنظمات
المصرية والدولية؛ على النظام المصري لوقف التدهور المستمر لأوضاع
حقوق الإنسان في مصر، وهو ما أكدته العديد من وزارات الخارجية في أوروبا والولايات المتحدة، والبرلمان الأوروبي ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، فقد خرج النظام المصري علينا مؤخرا بما وصفها بالاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، فما قصتها؟
في آذار/ مارس الماضي أصدرت 31 دولة إعلانا مشتركا، ألقته ممثلة فنلندا نيابة عن هذه الدول في الدورة 46 لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، حيث أعربت فيه عن القلق العميق إزاء الانتهاكات واسعة النطاق التي ترتكبها السلطات المصرية في ظل إفلات مستمر من العقاب.
وسبق ذلك تلقي مصر 372 توصية من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أثناء المراجعة الدورية الشاملة لملفها في جنيف في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 تتعلق بالانتهاكات التي باتت تشمل كل المجالات، ابتداء من الحق في الحياة، مرورا بالحقوق المدنية والسياسية، وانتهاء بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحقوق المرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة.
ولم يتم التعاطي بموضوعية مع هذه التوصيات وأسباب القلق التي يبديها المجتمع الحقوقي والدولي للانتهاكات الواسعة في مصر، استنادا للالتزامات التي وقعت عليها مصر والتي باتت جزءا من قوانينها بموجب المادة 93 من الدستور، والتي تؤكد على التزام الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها مصر وتصبح لها قوة القانون.
وهذا مع وجود مجلس قومي لحقوق الإنسان منشأ بالقانون 94 لسنة 2003 وتعديلاته بالقانون 197 لسنة 2017، وهو المجلس المفترض تشكيله وفقا لمبادئ باريس الخاصة بالمجالس الوطنية لحقوق الإنسان، والذي يعد جزءا من منظومة دولية تعمل كجسر بين الحكومات والمجتمع المدني والآليات الدولية لحقوق الإنسان، وعلى الرغم من مضاعفة موازنته مؤخرا لتصل هذا العام إلى 75 مليونا و600 ألف جنيه، والذي يفترض أنه يختص وفقا لولايته الدستورية والقانونية الخمسة عشر الواردة في المادة الثالثة من قانونه، الفقرة الثالثة "بوضع خطة قومية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان في مصر واقتراح وسائل تحقيق هذه الخطة"...
وهذا المجلس انقضت ولايته في 2016، ولا يعلم أحد إلى الآن على أي أساس هو قائم، رغم أن تعديلات قانونه والتي دخلت حيز التنفيذ في مطلع آب/ أغسطس 2017 تقول في المادة العاشرة مكرر: "يبدأ مجلس النواب في إجراءات تشكيل مجلس جديد خلال ثلاثين يوما من تاريخ أول انعقاد له". وانقضت الشهور والسنوات، وترك هذا المجلس الذي يرأسه الأستاذ محمد فايق وعمره 92 عاما وينتمي للحقبة الناصرية، ووكيله الأستاذ عبد الغفار شكر (85 عاما)، ومن أعضائه من توفاهم الله ومنهم من هاجر ومنهم من هو ملاحق لانتمائه لمنظمات مجتمع مدني جرى اتخاذ إجراءات ضدها.
ويرزح هذا المجلس تحت وطأة الفساد الذي تتحدث عنه الأوساط القريبة منه، ومع ذلك فهو كما كل المؤسسات الدستورية المستقلة، جرت السيطرة عليها وتغييبها عمدا، لتحل محلها مؤسسات شبه عسكرية تعمل بالأوامر المباشرة وغير المعنية بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، وحتى بأبسط مبادئه.
ولذلك قام نظام السيسي بتشكيل كيان حقوقي مواز يغلب على تشكيله الجنرالات والمخابرات.
فقد أصدر رئيس الوزراء في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 قرارا بتشكيل ما وصف بـ"اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان"، كبديل عن المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي لم يُمنح حتى عضوية في هذه اللجنة التي يرأسها وزير الخارجية، وعضوية وزارة الدفاع والداخلية وجهاز المخابرات العامة وهيئة الرقابة الإدارية، وكلها كيانات عسكرية وأمنية، بجانب بعض الهيئات المدنية الهامشية التي لا يمكن أن يكون لها رأي وسط الجنرالات من ممثلي هذه الكيانات المخيفة والمتهمة بانتهاك حقوق الإنسان، والذين يتمتعون بالحصانة من المساءلة أو العقاب على انتهاكاتهم.
ولم يكن من المصادفة أن هدف هذه اللجنة كما هو وارد في قرار تأسيسها "إدارة آلية التعامل مع ملف حقوق الإنسان والرد على الادعاءات المثارة ضد جمهورية مصر العربية بشأن حقوق الإنسان".
فهذه اللجنة إذن هي للدفاع عن الانتهاكات "المثارة"، ولا تعترف بهذه الانتهاكات أو تعمل على وقفها.
ولم يكن غريبا أيضا أن تغتصب هذه اللجنة مهام المجلس القومي لحقوق الإنسان وفقا لولايته الدستورية والقانونية، وتُصدر ما أسمتها بـ"
الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في مصر".
وهي جملة من النصوص النظرية التي سمعناها من قبل مرارا في معرض الحديث عن أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، وأن الشعب نفسه سبب للانتهاكات، وأن النظام يحتاج تريليون دولار حتى تتحسن أوضاع حقوق الإنسان. وهو كلام لا يمت للواقع أو الحقيقة بصلة، فقد عجز النظام عن وضع خطة وإطار عملي لوقف هذه الانتهاكات الجسيمة، والتي وصلت حد المذابح الجماعية والتصفيات الجسدية، والإخفاء القسري والتعذيب والاعتقال التعسفي وخطف الرهائن من الرجال والنساء، وانهيار نظام العدالة من خلال الانحراف بالتشريع، والسيطرة على جهاز النيابة العامة والقضاء، وتدمير الحياة السياسية وقمع الحريات المدنية والسياسية، أو مساءلة أي من منتهكي هذه الحقوق. والنتيجة هي عسكرة الملف الحقوقي، حتى ينطبق قول القائل: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم!!
مصر تحتاج بالفعل لثورة حقوقية تعيد الاعتبار لما هو منصوص عليه من ضمانات دستورية جرى انتهاكها عمدا، وتعيد الحرية لعشرات الآلاف ممن لفقوا لهم القضايا السياسية وزجوا بهم في السجون.. مصر تحتاج لمؤسسات حقيقية تعمل باستقلال ووطنية لتزيل هذا العار الذي لحق ببلادنا جراء هذه البشاعات التي ارتكبت بحق المصريين منذ الانقلاب العسكري. ولا زال المصريون ينتظرون إعلانا حقيقيا يؤكد التزام النظام بالدستور وبأحكامه، وما يترتب على ذلك من إسقاط منظومة الاستبداد والقوانين غير الدستورية التي جعلوها سيفا مسلطا على رقاب المصريين، حتى نتمتع بالحد الأدنى من الحقوق والحريات التي يستحقها هذا الشعب الضارب بجذوره في التاريخ، والذي لن يقبل أن يُستعبد مهما طالت ظلمة الاستبداد.