كنتُ، وما زلتُ، وأظن أني سأظل كَلِفاً بما يقول ويفعل عبد الفتاح
السيسي، الإنسان والرئيس. وكنت يوم 27 أيلول/ سبتمبر الماضي، كعادتي معه، مُشاهِدا ومُصْغيا بانتباه تام، وهو يقول: "لا مفيش حاجة اسمها الكلام ده، البلاد ما بتجيش بالدلع والطبطبة.."، ثم حدث لي ما قذفني إلى أُتُونُ غم طاغٍ، قضيت أسبوعا لأعالجه، وآخر لأفهم ما حدث لي؛ إذ فجأة ومع نهاية صوت حرف "التاء"، حلت صورة وصوت
نانسي عجرم محل صورة وصوت عبد الفتاح السيسي، الإنسان والرئيس.
خلال الأسبوع الأول، قدرت أن مخيلتي، المشوشة، قد تمادت إلى حد الهلوسة البصرية والسمعية، وتذكرت نصيحة الدكتور يحيى الرخاوي؛ التي وجهها ليس لي مباشرة ولكن لكل مشاهديه ومستمعيه: إن كنت تكلم الدولاب، فلا بأس، لكن عندما تسمعه يجيبك، فاذهب مباشرة لطبيب نفسي.. ها هي نانسي تحل؛ صورة وصوتا محل الإنسان والرئيس، وها أنا أتكاسل عن نصيحة الرخاوي، قلت لنفسي: فلتبحث عن سبب منطقي، وعدت للمشاهدة والإصغاء لعبد الفتاح السيسي، الإنسان والرئيس أولا؛ بالطبع، ثم لنانسي عجرم ثانيا، بالطبع أيضا.
مع نهاية الأسبوع الأول كنت قد أتممت المهمة، وزدت عليها مهام أخرى، فرجعت لتصريحات سابفة للسيسي، ووثقت ما سأفكر فيه منها.
انشغلت خلال بداية الأسبوع الثاني بالتفكير في ما إذا كانت حكاية نانسي ستفهم على إأها "تلقيح"، أم على أنها واقعة فعلية حدثت، أم محض تخييل، ورأيت أن الأنسب أن أترك الحكم للقراء.
* * *
عاودت، إذا، قراءة الخبر المعنون: السيسي إلى المحافظين ومديري الأمن: "البلاد ما بتجيش بالدلع والطبطبة.. البلاد بتيجي بالجدية والعمل"، وقرأت متنه: "قال السيسي، خلال افتتاح محطة معالجة مياه مصرف بحر البقر، الاثنين: أنا مفيش بيني وبين حد خصومة، أنا بيني وبين الباطل والشر والتعدي والظلم، خصومة".
أضاف: "يقولك أنت ليه بتحط نفسك في المجالات دي، ما تسيبهم هم، وزير الري يقول، وزير الزراعة يقول، طب حتى دولة الرئيس، وأنت خليك جميل، خليك حلو يعني".
تابع: "لا مفيش حاجة اسمها الكلام ده، البلاد ما بتجيش بالدلع والطبطبة، البلاد بتيجي بالجدية والعمل والانضباط والالتزام، ولازم كلنا نبقى مقتنعين بكدا حتى لو بنمارس الخطأ، نبقى عارفين إن أنا بعمل غلط وهتحاسب عليه".
وبحثت عن صياغة ثانية: قال الرئيس عبد الفتاح السيسي إنه على الجميع العمل من أجل مصلحة الوطن.
أضاف السيسي، خلال افتتاحه محطة معالجة مياه مصرف بحر البقر، الاثنين: يجب على الجميع العمل من أجل مصلحة وطن وبلد ونسعى أن بلادنا تاخذ مكانة أفضل مما كانت عليه".
وتابع: "بقول أن أي ممارسات سلبية مش مقبولة، وإن كانت مقبولة، أنا مبعرفش أعمل كده، مش بعرف اطنش، لو كنت بعرف أطنش كنت طنشت من 2011، 2012، 2013 وسبت البلد للمجمهول، أنا بقول لكل مسؤول، محافظ، مدير أمن: لو سمحت متسكتش على الغلط".
وأكمل: "أنا بقول إنه لا يوجد خصومة مع حد أنا بيني بين الباطل، الشر التعدي، الظلم خصومة".
وها هي صيغة ثالثة: "السيسي: لن نقبل بأي تعديات تحول دون تحسين أحوال المواطنين.
أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي، أن الدولة لن تقبل السكوت على أية تعديات ضد الأراضي الزراعية أو الترع أو الجسور، وأن أجهزة الدولة وعلى رأسها وزارة الداخلية والمحافظات والجيش - إن تطلب الأمر ذلك - ستنتهي من إزالة كافة التعديات التي تمت خلال الثلاثين عاما الماضية في موعد أقصاه ستة شهور.
جاء ذلك في كلمة الرئيس السيسي، اليوم الاثنين، خلال افتتاحه محطة معالجة مياه مصرف بحر البقر التي تعد الأضخم من نوعها على مستوي العالم.
وقال الرئيس: إن من ضمن الاجراءات التي سيتم اتخاذها ضد أي مخالف يقوم بالتعدي على أراض زراعية أو ترع أو مصارف، وقف كل أشكال الدعم الذي تقدمه الحكومة له من خبز أو تموين وخلافه.
وشدد الرئيس، على أن الدولة تسابق الزمن لتطوير المنشآت المائية بالكامل وشق الترع للحيلولة دون أن تؤثر هذه التعديات على استفادة المواطنين والزراعة من تدفق المياه، وإذا كانت الدولة تقوم بدورها على الوجه الأكمل في هذا الصدد، فإن المواطنين أيضا عليهم دور يجب القيام به.
وأشار إلى أن ما تم خلال السنوات السبع الماضية في كافة القطاعات ضمن مخطط الدولة حتى عام 2052 يمثل تقدما كبيرا لتعويض ما فاتنا حيث نتحرك بمعدلات أسرع، ولكن يتعين أيضا على المواطنين أن يساعدونا من خلال عدم التعدي على المنشآت لأن هذه التعديات لها أثرها السلبي على كميات المياه التي تمر عبر فرعي دمياط ورشيد.
وأكد الرئيس السيسي مجددا أن الدولة تقوم بتبطين الترع وغيرها من الاجراءات التي تفوق الخيال، وبالتالي لن نقبل بأي تعديات تحول دون تحسين أحوال المواطنين".
* * *
وشاهدت
المقطع المصور المعنون: "السيسي: البلد ما بتجيش بالدلع والطبطبة بتيجي بالجدية والانضباط".
ثم
الثاني؛ المعنون: "الرئيس السيسي يوجه بإزالة كافة التعديات على المجاري والمنشآت المائية خلال 6 أشهر".
* * *
مُندهِشا اكتشفت؛ حين عدت لنناسي، أن المزج (وهي تقنية سينمائية يُجمع من خلالها بين صورتين وصوتين، أو أكثر، في شريط صورة وصوت واحد) كان فائق الجودة والبراعة؛ ذاك أن ما شهدته يمحو ويحل مكان صورة وصوت عبد الفتاح السيسي، الإنسان والرئيس.. كان أغنيتين، وليست أغنية واحدة.
فأغنية "آه ونص" ظهرت ضمن "الألبوم" الرابع (2004) في مسيرة المطربة اللبنانية نانسي عجرم، وهي التي تتضمن كلمة "الدلع"، الموجودة في المقطع الأول، الذي يتكرر كلازمة:
"مافيش حاجه تيجي كده
اهدا حبيبي كده وارجع زي زمان
يابني اسمعني هتدلعني
تاخد عيني كمان"
أما أغنية "يا طبطب ودلع" فظهرت في "الألبوم" التالي (2006)، والذي حمل نفس عنوان الأغنية، التي يتضمن مقطعها الأول "الطبطبة والدلع" معا، وبالمثل، يتكرر كلازمة:
"يا اطبطب وادلع يا يقولي انا اتغيرت عليه
انا ازعل اولع ماهو كل همه ازاي ارضيه"
قلت لنفسي، في اليوم الأول من الأسبوع الثاني، قد يكون سبب المزج أن الأغنيتين كأنهما أغنية واحدة، المزاج السائد فيهما واحد، العالم العاطفي هو نفسه، والمؤلف واحد (أيمن بهجت قمر)، وكذلك الملحن واحد (طارق مدكور). الأولى كانت أشبه بانفجار أطلق شهرة نانسي، من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، الثانية جاءت لترسخ وتعمق، وربما لتعلق على الاستغراب من الاستجابة المذهلة.
* * *
مع نهاية الأسبوع الثاني، وقبل شروعي في الكتابة، قلت لنفسي: هذا لا يليق، مخيلتك المشوشة، في حاجة لعلاج لا يليق بالمطلق.. المحو والحلول حيلة مكشوفة لن تنطلي على أحد.
ثم ساجلتُ الفكرة، فكرة الحيلة، طويلا. وفي خاتمتها (المساجلة) قلت: يليق ونص.
* * *
وكررت وأنا أفتح صفحة الـ"ورد" كلمتي "يليق ونص"، وإلا كيف نتقبل أن يضع عبد الفتاح السيسي، الإنسان والرئيس، نفسه في هذا الموقف: يقول في 27 أيلول/ سبتمبر 2021، على الملأ، وعن يمينه رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، وعن شماله وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول محمد زكي، نفس ما قاله في 23 أيار/ مايو 2017، لكن وقتها كان على يمينه رئيس مجلس وزراء آخر (شريف إسماعيل)، وعن شماله وزير دفاع وقائد عام آخر (صدقي صبحي). تغير رئيس مجلس وزراء ووزير دفاع، وآخرون (أبرزهم، بلا شك، رئيس الأركان الفريق محمود حجازي) والكلمات نفسها، والأمر نفسه، والمهلة المحددة القاطعة نفسها، بل الأنكى أن الرئيس، في المرة السابقة، أراد النطق بكلمات وتردد في قولها، ثم، كعادته، حسم تردده، وقالها: منبقاش رجالة!
فلنقرأ الخبر. أولا، خبر 23 أيار/ مايو 2017:
"انفعل الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال حديثه اليوم عن استيلاء البعض على أراضي الدولة وتبويرها بغرض الاتجار فيها.
وقال خلال حضوره اليوم فعاليات افتتاح عدد من المشروعات التنموية في مدينة دمياط، إن الدولة لن تترك شبرا واحدا لأي حرامي أو مغتصب، بحسب وصفه، لافتاً إلى أن لا أحد فوق القانون مهما كانت نفوذه.
وأضاف: طول مانا عايش وفي منصبي لن أترك هؤلاء المغتصبين الذين يهدرون حق الشعب، واللي عاوز يتحداني فهو يتحدى حق الله، متابعاً: منبقاش رجالة وفينا مروءة إذا تركنا أرض بلدنا لهؤلاء المغتصبين.
وشدد على ضرورة إنهاء أي تعديات على أراضي الدولة، مؤكداً أن بنهاية هذا الشهر سيجتمع مع كل محافظ ومدير أمن ليطلعوه على آخر ما تم إنجازه بشان إنهاء التعديات على أراضي الدولة".
ثم نشاهد ونصغي
للمقطع المصور، وعلينا أن نأخذ في الاعتبار أن هذا المقطع قد نال، منذ إنشأئه وحتى اللحظة التي رجعت إليه فيها، 57,653 مشاهدة ممن شاهدوا وسمعوا الرئيس وهو يأمر ويمهل (ستة أشهر)، ويتوعد، ويحكم (منبقاش رجالة).
* * *
هناك فرضية منطقية: الرجال انجزوا المهمة، بالتمام، في المهلة المحددة، أي أنه في صباح 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، لم تعد هناك تعديات على أراضي الدولة.
ولِمَ، إذا، جاء الوعيد الثاني، والمهلة الثانية، قبل أسبوعين؟
هناك فرضية جديدة: في الصباح التالي (25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017) بدأ البعض تعديات أخرى؛ تراكمت حتى بلغت حد الخطورة، فانتفض الرئيس.
منطق سليم، ومعقول تماما.
فلنحسب، إذا، من اليوم، وننتظر ستة أشهر، ثم أربعة سنوات عقبها، لنشاهد ونسمع ما سمعنا مرتين من قبل.
منطق أعوج، ونية سيئة، مغرضة.
* * *
قلت "مشوش"، هذا أفدح وأحط من "أعوج، سيئة، مغرضة".
مشوش، ويقلقني هذا العنوان: رئيس أركان الفرقة السابعة مشاة: لا مساس بالبسطاء خلال تنفيذ حملات الإزالة،
وهذا المقطع الذي شاهده منذ إنشائه حتى اللحظة التي رجعت فيها إليه، 5,295 مشاهدة.
ذاك أن ذاكرتي (المشوشة)، ومنطقي (الأعوج)، ونيتي (السيئة، المغرضة) تستدعي وقائع، وتنشغل بأسئلة، وتقصد التعبير عن الرأي، والنصح.
فمن الذاكرة.. أستدعي أن المشير عبد الحكيم عامر، وبالتالي القوات المسلحة، كان مكلفا وكانت مكلفة بمهام خارج نطاق مهامها (خلال الفترة من 1963 حتى 5 حزيران/ يونيو 1967)، كان منها، مثلا: السيطرة على هيئة النقل العام، بدعوى أن بعض المحصلين يزوّرون تذاكر الأتوبيس، وأن لجان تصفية الإقطاع في حاجة لما هو أكثر انضباطا من رجال الداخلية ومديري الأمن والمحافظين.
منطقي يقول: هناك مخاطر مهولة ليس، فقط، في كلمات عبد الفتاح السيسي، الإنسان والرئيس، بل بالأساس من منطلقاتها، وما يمكن أن يستنتج منها. فمثلا: هل هناك مقاومة منظمة من أجهزة هامة ونافذة داخل الدولة تقاوم عبد الفتاح السيسي، الإنسان والرئيس، وهذا خطر بالغ، وهناك مثلا أن الرئيس يقول شيئا، أو يصدر أمرا فلا ينفذ، وهذا خطر بالغ أشد، وهناك أيضا استنتاج أن الرئيس يقول وينسى ما قاله، ويعود ليقوله، وهذا لا يحتمل، وهناك، وهناك، وهنا.
وهذا يحتاج، توضيحه لمساحة ووقت، أرجو أن يكونا قريبين.
وأختم: يليق ونص.