الانقلاب العسكري الأخير في
السودان على الشركاء المدنيين، ومن قبله الانقلاب السياسي في تونس على مؤسسات الدولة (الحكومة والبرلمان)، هما جزء من موجة انقلابات أفريقية جديدة بعد أن نجحت القارة السمراء في طي صفحة الانقلابات، وبعد أن توافقت على مقاطعة أي نظام انقلابي، وتجميد عضويته في الاتحاد الأفريقي.. هذه الموجة الجديدة للانقلابات في أفريقيا تلقت ضوئها الأخضر من قبول القوى الكبرى للانقلاب العسكري في
مصر صيف 2013.
لقد كان الانقلاب المصري واحدا من أكثر الانقلابات "تقليدية ووضوحا"، ذلك أنه تم من قيادة الجيش مباشرة (وزير الدفاع ورفاقه) ضد رئيس مدني منتخب وحكومته، ومع ذلك فإن الموقف الدولي خاصة من عواصم القرار والصوت العالي أبدى ترددا تجاهه، وأبدى "حيرة مصطنعة" في توصيفه!! واكتفى بالمناداة بضرورة احترام
الديمقراطية وحقوق الإنسان. صحيح أن الإدارة الأمريكية (أوباما) أوقفت مؤقتا بعض مساعداتها العسكرية، لكنها ما لبثت أن أفرجت عنها، وكأن شيئا لم يكن، بل قامت العديد من الدول الغربية بتوقيع صفقات ضخمة مع النظام الانقلابي المصري، وهو ما اعتبره مساندة غربية له، حتى وإن كانت مدفوعة الثمن.
الموقف الغربي المتخاذل تجاه الانقلاب على الديمقراطية في مصر فتح شهية الجنرالات والساسة المغامرين في دول أخرى، وخاصة في القارة الأفريقية
هذا الموقف الغربي المتخاذل تجاه الانقلاب على الديمقراطية في مصر فتح شهية الجنرالات والساسة المغامرين في دول أخرى، وخاصة في القارة الأفريقية. فعلى الحدود الغربية وقع تمرد الجنرال خليفة حفتر الذي أعلن انقلابه على السلطة المدنية في ليبيا في 2014، وكادت تونس أن تسقط في براثن الثورة المضادة في العام 2013 وقد أنقذها الحوار الوطني الذي تخلت بموجبه حركة النهضة عن رئاسة الحكومة طواعية، ولكنها أصيبت مجددا مع انقلاب قيس سعيد على الدستور في 25 تموز/ يوليو الماضي. وشهدت مالي انقلابين عسكريين، كما شهدت غينيا انقلابا أيضا، بينما فشلت محاولة انقلابية في النيجر، ثم جاء الانقلاب السوداني كأحدث الحلقات في هذه السلسلة الانقلابية.
توقع
البرهان ورفاقه أن يتعامل معهم العالم كما تعامل مع انقلاب جارهم الشمالي (مصر)، وحتى تونس، لكنهم فوجئوا حتى الآن بموقف مختلف، فالمعايير في الغرب ليست واحدة، وليس كل انقلاب يمكن أن يمر، فالحكومة التي جرى عليها الانقلاب في السودان تنتمي لقوى الحرية والتغيير التي تضم أحزابا ليبرالية ويسارية وبعثية (وإن انقسمت على نفسها وخرجت بعض مكوناتها لتشكل جناحا آخر أكثر تفاهما مع المكون العسكري)، ورئيس الحكومة ذاته عبد الله حمدوك هو ابن المؤسسات المالية الدولية من خلال عمله السابق الممتد فيها، والجيش السوداني لم يعد مهما للغرب وخططه في أفريقيا.
توقع البرهان ورفاقه أن يتعامل معهم العالم كما تعامل مع انقلاب جارهم الشمالي (مصر)، وحتى تونس، لكنهم فوجئوا حتى الآن بموقف مختلف، فالمعايير في الغرب ليست واحدة، وليس كل انقلاب يمكن أن يمر، فالحكومة التي جرى عليها الانقلاب في السودان تنتمي لقوى الحرية والتغيير التي تضم أحزابا ليبرالية ويسارية وبعثية
وبمجرد أن حدث الانقلاب يوم 25 تشرين الثاني/ أكتوبر تداعت العواصم الغربية رفضا وتنديدا، ووصل الأمر إلى صدور بيان عاجل عن مجلس الأمن الدولي يدين الانقلاب، ويطالب بإعادة الحكومة المدنية، كما قرر الاتحاد الأفريقي تعليق عضوية السودان فيه. ورغم أن هذا الموقف تقليدي للاتحاد ضد الحكومات الانقلابية عموما، إلا أن الجديد في الأمر هو في تكييف الاتحاد لما حدث بأنه انقلاب، رغم أن رئيس الدولة باق في منصبه، بل هو من اتخذ تلك الإجراءات. وكان المبرر الذي استند إليه الاتحاد الأفريقي هو خرق رئيس الدولة للوثيقة الدستورية المنظمة للمرحلة الانتقالية، وهو ما ينطبق أيضا على الوضع التونسي حيث خرق الرئيس قيس سعيد الوثيقة الدستورية ولم يجد الرد ذاته من الاتحاد الأفريقي!!
لم يطق الغرب أن يبقى رئيس الوزراء السوداني حمدوك ست ساعات في محبسه؛ بينما قبل أن يبقى الرئيس المدني المنتخب محمد مرسي ست سنوات في محبسه، حتى وفاته رحمه الله، ولم يطق الغرب إقالة حكومة حمدوك بينما قبل في نهاية المطاف إقالة حكومة فؤاد المشيشي التونسية بطريقة غير دستورية. صحيح أنه ندد بإجراءات قيس سعيد، وصحيح أنه طالب بالمسارعة في استعادة الأوضاع الطبيعية، لكنه لم يتخذ أي إجراءات عملية أو حتى يلوح بها كما فعل في الحالة السودانية.
كل المواقف المنددة بالانقلاب السوداني والساعية لوأده هي تحركات محمودة أيا كان صاحبها، ولكن المشكلة هنا هي استمرار التناقض الغربي والكيل بمكيالين، وهو ما يبقي الطعون قائمة في مصداقيته وجديته في الدفاع عن الحريات والديمقراطية، ويدفع الشعوب العربية والإسلامية للاعتماد على قواها الذاتية في مواجهة الاستبداد دونما انتظار لأي مساندة خارجية.
والحقيقة أن الشعب السوداني لم ينتظر دعما خارجيا، بل الصحيح أنه خرج أيضا ضد التدخل الأجنبي الداعم للانقلاب، وقد ظهر ذلك جليا في اللافتات التي رفعها المتظاهرون يوم السبت (30 تشرين الأول/ أكتوبر)، والتي أشارت تحديدا للإمارات ومصر، واللتين تمثلان مع السعودية مثلث الثورة المضادة المنظمة والداعمة للانقلابات في المنطقة. كما أن الشعب السوداني لا ينتظر موقفا أمريكيا او أوربيا، ولكنه حتما سيرحب بأي جهود تغلق قوس الانقلاب سريعا.
حبل سري يربط الانقلابين في مصر والسودان، ظهرت مؤشراته في الدعم المصري المبكر للمكون العسكري السوداني بعد توقيع وثيقة المرحلة الانتقالية، وظهرت في اللقاءات المتعددة والمكثفة التي تركزت مع المكون العسكري طيلة الفترة الماضية، وظهرت أخيرا في تواصل المخابرات العامة المصرية مع القيادة العسكرية السودانية عقب الانقلاب،
حبل سري يربط الانقلابين في مصر والسودان، ظهرت مؤشراته في الدعم المصري المبكر للمكون العسكري السوداني بعد توقيع وثيقة المرحلة الانتقالية، وظهرت في اللقاءات المتعددة والمكثفة التي تركزت مع المكون العسكري طيلة الفترة الماضية، وظهرت أخيرا في تواصل المخابرات العامة المصرية مع القيادة العسكرية السودانية عقب الانقلاب، في حين رفض وزير الخارجية سامح شكري استقبال اتصال نظيرته السودانية مريم الصادق المهدي (التي تنتمي للمكون المدني)، وهذه علاقة تبدو طبيعية بين نظامين عسكريين انقلابيين؛ كلاهما يعادي الديمقراطية، ويعادي الحكم المدني.
الهبة الشعبية السودانية المناهضة للانقلاب والتي بلغت ذروتها في مظاهرات 30 تشرين الأول/ أكتوبر - حال نجاحها في دحره، واستعادة الحكم المدني - ستمثل روحا جديدة تسري في عموم المنطقة، وستمثل طاقة أمل تلهم المحبطين في مواجهة ضربات الثورات المضادة، ولذا فإن من واجب كل منتم للربيع العربي أيا كان انتماؤه السياسي؛ دعم نضال الشعب السوداني من أجل دولة مدنية ديمقراطية.
twitter.com/kotbelaraby