هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا للصحفيين أليكس مارشال وكارلوتا غال وإليزابيتا بوفوليدو، قالوا فيه؛ إن عشرات محركي الدمى جلسوا القرفصاء في غرفة بروفة في لندن في حزيران/ يونيو، يرقبون كل حركة لطفلة لطيفة تبلغ من العمر 8 سنوات تدعى تمارا، كانت تحاول سرقة كرة قدم زاهية من منتصف الغرفة لاستلهام حركاتها من أجل مسرحية مؤثرة.
بدت الطفلة متوترة، وظلت تنظر من فوق كتفها، وكأنها تريد التأكد من عدم وجود أحد خلفها. ثم، فجأة، ركضت مباشرة نحو الكرة، حملتها بين ذراعيها وهربت.
أمير نزار الزعبي، مخرج مسرحي فلسطيني ووالد تمارا، بدا سعيدا. وقال: "انظروا، كل ما تفعله يتم بشكل خاطف.. وكل شيء بالنسبة لها حياة أو موت".
وكان محركو الدمى يراقبون تمارا عن كثب من أجل تقليد سلوكها وتصميم دمية للاجئة سورية تبلغ من العمر 9 سنوات تدعى الصغيرة أمل، الشخصية الرئيسية في العمل المسرحي "The Walk"[المسيرة] أحد أكثر الأعمال المسرحية طموحا لهذا العام -وبالتأكيد عمل مسرحي على أكبر مسرح.
اقرأ أيضا: مايا غزال.. أول لاجئة سورية تحصل على رخصة قيادة طائرة
وكانت حبكة "The Walk" بسيطة: فقدت أمل أمها، وكانت تبحث عنها. لكن الترتيبات اللوجستية اللازمة لإنجاز المشروع الذي تبلغ تكلفته حوالي 4 ملايين دولار -رحلة 5000 ميل من تركيا إلى إنجلترا- لم تكن بسيطة أبدا.
وطوال الرحلة، كانت الدمية التي يبلغ طولها 12 قدما -التي تتطلب ما يصل إلى أربعة أشخاص للسيطرة– ستتوقف في أكثر من 140 محطة في ثماني دول، في أماكن تتراوح ما بين مخيمات اللاجئين إلى دار الأوبرا الملكية في لندن.
واستحوذت أخبار اللاجئين على الصحف الأوروبية في 2015-2016، عندما فر الملايين من الحرب في سوريا، لكن الناس ما زالوا يعبرون القارة كل يوم. ومع انتشار جائحة كورونا، فإن الظروف التي يعيش فيها اللاجئون والمهاجرون والمعاملة التي يلقونها ازدادت سوءا.
وقال ديفيد لان، المدير الفني السابق لمسرح Young Vic في لندن وأحد منتجي المشروع، في استراحة من البروفات أن معنى "The Walk" كان واضحا: "لا تنسونا".
لكنه قال؛ إن الفريق لا يريد تحقيق ذلك من خلال التركيز فقط على الأهوال التي يواجهها اللاجئون. وقال لان؛ "إنها طفلة، لذا ستمر بأوقات مرعبة وستكون وحيدة وخائفة.. لكن تركيزنا ينصب على الإمكانات والبهجة التي يمكنها أن تجلبها".
وتطور عمل "The Walk" المسرحي من عمل "The Jungle"، وهي مسرحية غامرة تدور أحداثها في مخيم للاجئين، وقد نالت عروضها في كل من West End بلندن وفي St. Ann’s Warehouse في بروكلين الكثير من الإشادة.
ولكن العرض الجديد كان اقتراحا مختلفا، حيث كان يتم في الغالب خارج الأماكن التقليدية. وكانت إجراءات الهجرة المتشددة تتزايد مع بدء المشروع. قبل أيام قليلة من التدريب، أصدرت الدنمارك قانونا يسمح لها بنقل طالبي اللجوء إلى خارج أوروبا في أثناء تقييم طلباتهم. وسرعان ما قالت بريطانيا، حيث عبّر بعض الوزراء عن رغبتها في خلق "بيئة معادية" للمهاجرين، إنها تريد أن تفعل الشيء نفسه. وفي بلدان أخرى، تم اقتراح حواجز لإبعاد المهاجرين.
في هذا السياق، بدا عمل "The Walk" استفزازا مثله مثل المسرح. أصر الزعبي على أن الأمر لم يكن كذلك. "نحن لا نأتي للاستفزاز. نحن نمشي طفلة تبلغ من العمر 9 سنوات للعثور على والدتها".
وأضاف بلطف: "إذا لم تعجبك، فلا بأس".
ما إذا كان السكان المحليون في جميع أنحاء أوروبا سيوافقون، كان الزعبي سيكتشف ذلك قريبا.
اقرأ أيضا: بادرة إنسانية.. برشلونة يحقق حلم لاجئة سورية
في أمسية معتدلة من شهر تموز/ يوليو، خطت الصغيرة أمل خطواتها المتعثرة الأولى في الأزقة الضيقة في غازي عنتاب، وهي مدينة تقع في جنوب تركيا على بعد 40 ميلا فقط من الحدود السورية. إنها المدينة التي استقر فيها 3.6 مليون لاجئ سوري.
احتشد الأطفال والكبار المتحمسون حول الدمية، ورفعوا الفوانيس والأضواء لإنارة طريقها.
وكان محركو الدمى الأربعة الذين يتحكمون بها -واحد بالداخل على ركائز متينة، واثنان يحركان يديها ورابع لتثبيتها من الخلف عند الحاجة- جعلوها تدور مرارا للنظر إلى الوراء، كما لو كانت تبحث عن والدتها. ثم تنظر إلى الأرض بخيبة أمل وتمشي.
وفي اليوم التالي، كان من المفترض أن تقوم بجولة ثانية. لكن مثل لاجئة حقيقية، توقفت رحلتها. حيث قتل جندي تركي في عمليات في شمال العراق، وكان من المقرر أن يدفن خارج المدينة. احتراما للحساسيات المحلية، توقفت "المسيرة" - التي عمرها يوم واحد فقط.
ومن غازي عنتاب، سارت رحلة الصغيرة أمل بسلاسة. في أضنة، تركيا، طير الأطفال حولها أسرابا من الطيور محلية الصنع. في تشيشمي، نظرت إلى البحر بينما كانت محاطة بمئات من أزواج الأحذية الفارغة، للتذكير بأولئك الذين سبقوها (ولم يصلوا). بينما كانت في جزيرة خيوس اليونانية، غنت الجوقات للترحيب بها.
ولكن بعد ذلك، حاول الفريق -حوالي 25 شخصا- زيارة موقع التراث العالمي اليوناني ميتيورا، المعروف بالأديرة الأرثوذكسية التي بنيت على الصخور الشاهقة. كان من المفترض أن يكون لأمل نزهة مع الأطفال المحليين، والأديرة خلفية ذات مناظر خلابة. لكن المجلس المحلي حظر الحدث.
وحاول أعضاء المجلس تفسير القرار بالقول؛ إن "دمية مسلمة من سوريا" لا ينبغي أن تقوم بأداء في مكان مهم للمؤمنين الأرثوذكس اليونانيين. (في الواقع، لم يتم تحديد دين أمل أبدا). لكن بالنسبة للبعض، كان الإلغاء يتعلق بأكثر من الاختلافات الدينية. مع تصاعد الأزمة في أفغانستان، تصاعدت التوترات حول الهجرة مرة أخرى في أوروبا. في اليونان، خشي البعض تكرار ما حدث في 2015-2016 عندما مر أكثر من مليون لاجئ مستخدمين البلاد كبوابة لألمانيا أو فرنسا أو إنجلترا أو أي مكان آخر.
أوضحت جمعية تراثية في ميتيورا معارضتها على موقعها على الإنترنت: "الحقيقة المرة هي أن أولئك الذين قالوا نعم للصغيرة أمل، يقولون في الواقع نعم لكل من جاء بعدها".
لم يحاول لان، المنتج، تغيير رأي المجلس. وقال: "إذا لم نكن موضع ترحيب، فلن نذهب"، وشرع الفريق للتخطيط لحدث جديد، لكن الأمور لم تهدأ.
بعد أيام قليلة، في لاريسا، وسط اليونان، رشق الناس أمل بالبيض والفواكه وحتى الحجارة. ورفع آخرون الرموز الدينية في وجهها. حاول المشجعون الدفاع عنها، وتدخلت الشرطة.
ثم في أثينا، قالت الجماعات اليمينية إنها ستحتج على الحدث المخطط لها، وقال المناهضون للفاشية إنهم سيحتجون دعما لها، واضطرت الشرطة إلى استخدام الغاز المسيل للدموع لتبديد الحشود.
ربما كان من المدهش أن تتوقف مقاومة الصغيرة أمل في أثناء عبورها من اليونان إلى إيطاليا، وهي دولة أخرى غالبا ما سمح السياسيون فيها للمشاعر المعادية للمهاجرين أن تغلي.
في صباح يوم 10 أيلول/ سبتمبر، دخلت إلى الفاتيكان. اصطحبها محركو الدمى في نزهة عبر ساحة القديس بطرس. هناك، انحنت لعناق تمثال برونزي يصور 140 مهاجرا - بينهم يهود فارون من النازيين - وكأنها تعرفت على نفسها بينهم. ثم التقت بالبابا.
عندما رأى البابا فرانسيس، الذي كان صريحا منذ فترة طويلة في دعم اللاجئين، أمل، حاول مصافحتها، واكتفى بإمساك إصبع؛ لأنه كان كل ما يمكن أن يستوعبه، مبتسما طوال الوقت. قال روبرتو روبرتو، المنتج الإيطالي المشارك للمشروع؛ إن اللقاء "كان لحظة مسرحية.. كان كل شيء بسيطا جدا ورقيقا".
في الليلة التالية، اصطحب محركو الدمى أمل إلى تياترو إنديا، أحد المسارح الرئيسية في روما، حيث وضعوها على مرتبة كبيرة في فناء خارجي وحاولوا جعلها تبدو وكأنها نائمة.
ظهرت لوحات وملصقات وأعمال رقمية للفنان السوري تمام عزام على جدار خلف الدمية. كانت مشاهد مروعة للمنزل الذي مزقته الحرب التي تركتها وراءها.
وصف عزام، الذي غادر سوريا في عام 2011 ويعيش الآن في ألمانيا، الأمر بأنه "حلم متحرك" لمكان غير آمن بالتأكيد.
قال الزعبي، المدير الفني للمشروع؛ إنه اختار روما ليعرض كوابيس أمل بسبب التناقض الصارخ بين الهندسة المعمارية العجيبة للمدينة والحقائق التي كان المشروع يحاول لفت الانتباه إليها. وقال: "هذه الرحلة هي المشقة والجمال مجتمعان".
ستحدث اللحظات الأكثر رمزية للمشروع على شاطئ البحر في فرنسا، في حوالي الساعة 10 صباحا يوم أحد مشرق، اجتمع فريق الصغيرة أمل والمشجعون في موقف سيارات تابع للكنيسة في Grande-Synthe، وهي بلدة صغيرة بالقرب من الساحل الشمالي، في محاولة لعدم الاختلاط مع عائلتين في انتظار تعميد طفليهما حديثي الولادة.
وكان من المفترض لمجموعة من اللاجئين والمهاجرين أن يغنوا الراب لأمل، لكن سيلين برونيل، الفنانة التي ساعدت في الحدث، قالت إنهم لم يحضروا جميعا. قالت على سبيل التوضيح؛ "إنه وقت مبكر.. وربما قضوا الليل في محاولة للوصول إلى إنجلترا".
وخرجت أمل في النهاية من الكنيسة، لكن استقبلها شرطي اعترض طريقها. قامت بضرب حذائها الضخم بالأرض بإحباط، ومضت للأمام وللخلف كما لو كانت غير قادرة على تقرير ما يجب القيام به بعد ذلك، حتى جاء مغنو الراب وقد ربطوا الأوشحة الحمراء حول رؤوسهم، وبدؤوا بحثها أن تنضم لهم.
قادوا أمل إلى ساحة البلدة -كان السكان المحليون يطلون من نوافذ الشقق على طول الطريق، على أمل الحصول على رؤية أفضل- ثم قاموا بأداء أغنية باللغة الفرنسية، قائلين للصغيرة أمل إنهم يتفهمون ألمها، ولكن "نعلم أنك ستنجحين".
وقال خوسيه مانزامبي، أحد مغني الراب، بعد ذلك: "أرى نفسي فيها، رغم أنها فتاة صغيرة".
لقد جاء إلى فرنسا من أنغولا قبل أربع سنوات، والآن يبلغ من العمر 21 عاما، كان يأمل في البقاء وأن يصبح ممثلا. لكنه كان لا يزال ينتظر تصريح إقامة.
المدن الشمالية مثل غراند سينثي وعلى الساحل، كاليه، منقسمة حول قضية اللاجئين. يتجه المناخ السياسي في فرنسا أيضا إلى اليمين قبيل الانتخابات الرئاسية العام المقبل.
رفضت ناتاشا بوتشارت، عمدة كاليه، منح تصريح لحدث اليوم الأخير على شواطئ المدينة، لذلك كان لا بد من نقله على بعد حوالي 30 ميلا إلى منتجع بري-ديونز.
وانضم إليها 30 دمية ضخمة أخرى - بعضها صُنع ليبدو كالسمك، والبعض الآخر يرتدي زي الملوك. ثم بدأت جويس ديدوناتو، مغنية الأوبرا الأمريكية الشهيرة، تغني لهم جميعا من قارب عالق على الرمال.
بعد نصف ساعة من الحفلة الموسيقية، انتهى وقت الصغيرة أمل في فرنسا. قام محرك الدمى الرئيسي، بمساعدة العديد من المساعدين، بتخليص نفسه ونزل عن الركائز. وتم تعبئة أمل في الصناديق، جاهزة لرحلة بالقطار تحت البحر. على عكس العديد من اللاجئين، الذين يمكنك رؤية المئات منهم يطلبون المساعدة يوميا حول كاليه، كانت ستصل إلى إنجلترا قبل الصباح.
كان من المفترض أن تنتهي رحلة الصغيرة أمل في ليلة أربعاء باردة ورطبة في مانشستر، مع استعراض في شوارع المدينة تحت إشراف سيمون ستون، مخرج المسرح والسينما الأسترالي.
قبل ذلك بساعات قليلة، استعرض العديد من محركي الدمى تجربتهم. قالت فداء زيدان، ممثلة فلسطينية؛ إنها أحست بمشاعر غامرة لكن بالإرهاق أيضا. وقالت: "مثل أمل، أريد العودة إلى الوطن".
مؤيد رومية، لاجئ سوري يعيش في فرنسا، قال إنه لا يريد أن تنتهي الرحلة. قال: "المجموعة هنا، هم الآن مثل عائلتي".
وقال الزعبي، المدير الفني للمشروع؛ إن تغيير وجهات النظر ليس هو الهدف. وقال: "كفنانين، شعرنا أن هذه مشكلة يجب أن نتعامل معها.. ولو كنت إسكافيا، لكنت أصلح الأحذية لها". وأضاف: "أنا سعيد لأننا لامسنا القلوب.. آمل أن نكون قد لامسنا العقول أيضا".
في ساحة خارجية في مانشستر، بينما كانت الصغيرة أمل تخطو خطواتها الأخيرة، كانت محاطة بسرب من طيور السنونو الخشبية. ثم ظهر دخان أمامها.
وظهر على الدخان صورة عابرة لوجه امرأة متألق وسُمع صوت لطيف من مكبرات الصوت بالساحة.
وقال الصوت بالعربية: "بُنيتي، لقد وصلت إلى هذا المكان - بعيدا جدا عن الوطن - والطقس بارد، لذا أدفئي نفسك.. أنا فخورة بك." لقد كانت والدة الصغيرة أمل، الآن، على ما يبدو، شبحا أو ذكرى. وأضافت: "كوني لطيفة مع الناس، وتذكري دائما من أين أتيت".
اتجه الحشد الذي يبلغ قوامه 4000 فرد نحو الصغيرة أمل، التي وقفت منتصبة ومتحدية وبدا أنها أخذت نفسا عميقا، وصدرها يرتفع ويزفر. ثم تقدمت للأمام، في مدينتها الجديدة، لمحاولة بناء حياة جديدة.