مقالات مختارة

موت العراقيين على حدود بيلاروسيا

صادق الطائي
1300x600
1300x600

صفحة جديدة من صفحات كتاب المآسي العراقي، الموت من البرد على الحدود الفاصلة بين بيلاروسيا وبولندا، لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف ابتدأ هذا المسار، وأصبح طريقا معروفا لدى شركات السياحة، وشبكات تهريب البشر، فبعد أن كان المهرب يأخذ الباحثين عن وطن بديل من تركيا عبر البحار ليدقوا أبواب أوروبا، وجد البعض طريقا وصفوه بالآمن لفاقدي الأمل في أوطانهم الشرق أوسطية المنكوبة، فجمعوا ما استطاعوا إليه سبيلا من أموالهم وسلموها لشبكات التهريب، التي أوصلتهم إلى بوابات مغلقة وأسلاك شائكة على الحدود اللتوانية أو البولندية، بوابات يحرسها جنود مدججون بالأسلحة وقنابل الدخان وخراطيم المياه، تجمع الآلاف من الشباب والنساء والأطفال في غابات قارسة البرد، خلق أزمة دولية لا أحد يعرف نهايتها.


المراقبون أشاروا إلى إن هناك جانبا سياسيا حرك أزمة اللاجئين الأخيرة، انطلقت شرارته من بيلاروسيا، التي تحول رئيسها ألكسندر لوكاشينكو الى ديكتاتور قابض على كرسي الرئاسة منذ عام 1994، وبات يوصف في الغرب باسم «آخر ديكتاتور في أوروبا». وقد فرض الاتحاد الأوروبي سلسلة من العقوبات على بيلاروسيا، نتيجة تسهيلها إدخال موجات المهاجرين إلى لتوانيا ولاتيفيا إبان صراعها مع دول البلطيق.


كذلك تمت إدانة إجراءات حكومة مينسك لانتهاكها قوانين وأعراف حقوق الإنسان الدولية، عبر قيامها باعتقال المعارضين والناشطين المدنيين. ومن بين العقوبات التي فرضت على بيلاروسيا، كانت حزمة العقوبات الاقتصادية الكبيرة التي طالت لوكاشينكو وعددا من معاونيه؛ كتجميد الأصول المالية التي يمتلكونها، وحظر تأشيرات السفر الأوروبية والأمريكية.


يرى عدد من المحللين أن الأزمة الحالية ولدت من رحم التوتر بين الاتحاد الأوروبي وبيلاروسيا، الذي تصاعد بشكل كبير عقب انتخابات 2020، التي فاز بها ألكسندر لوكاشينكو بدورة سادسة، ما زاد من حدة العقوبات الأوروبية على مينسك، هذا الأمر دفع نظام لوكاشينكو لاستخدام تحشيد اللاجئين على حدود الاتحاد الأوروبي كورقة ضغط، وقد بدأت الأزمة أواخر شهر أيار/مايو 2021 عندما أعلن الرئيس لوكاشينكو، ردا على عقوبات الاتحاد الأوروبي، أن المهاجرين الواصلين إلى بلاده لن يُمنعوا من العبور إلى الاتحاد الأوروبي، وبهذا يكون لوكاشينكو قد حول المهاجرين إلى سلاح ضد دول الاتحاد الأوروبي.


تصف بعض التقارير تآمر مينسك على جيرانها من دول الاتحاد الأوروبي عبر اجتذابها لآلاف المهاجرين الشرق أوسطيين عبر تسهيل تأشيرات الدخول السياحية، التي منحتها لهم، ويبدو أن الحكومة البيلاروسية كانت تعلم بوجهتهم نحو الحدود اللتوانية والبولندية لدخول الاتحاد الأوروبي، لكن الحكومة البيلاروسية من جانبها نفت وبشدة ضلوعها في هذه السياسات، وصرح الرئيس لوكاشينكو مع تصاعد الأزمة الأخيرة نافيا اتهامات تنظيم تدفق المهاجرين على الحدود، قائلا إن أمر إيواء اللاجئين «مكلف» جدا بالنسبة لبلده، وأضاف: «لم نفعل هذا الأمر مطلقا ولا نعتزم القيام به»، وكرر تحذيراته بأن بيلاروسيا ستدافع عن نفسها إذا فرضت عليها عقوبات جديدة.


فلاديمير بوتين بدوره دعم موقف حليفه العتيد ألكسندر لوكاشينكو في الأزمة الأخيرة، إذ نفى الرئيس الروسي نهاية الأسبوع الماضي الادعاءات بأن موسكو تساعد في تنظيم الأزمة، وألقى اللوم على السياسات الغربية في الشرق الأوسط. وقال الكرملين في 15 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري؛ إنه «من الخطأ» تحميل الرئيس البيلاروسي المسؤولية الكاملة عن أزمة الهجرة عند الحدود مع بولندا، وأضاف الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف؛ أن «لوكاشينكو ليس المتسبب بالوضع الحاصل عند الحدود، ومن الخطأ تماما تحميله كامل المسؤولية».


على صعيد ضحايا الأزمة، هنالك أمر لافت، إذ نجد حوالي خمسة آلاف لاجئ كردي عراقي بين اللاجئين الذين قدر عددهم بحوالي 17 ألفا، ففي مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، قدر النائب في برلمان إقليم كردستان سيروان بابان، عدد المهاجرين الكرد العالقين على الحدود في بيلاروسيا بنحو آربعة آلاف شخص، بينهم 250 طفلا و700 امرأة، إلى جانب بضع مئات آخرين في عاصمتها مينسك ينتظرون ما سيحدث، لكن الرقم تصاعد في الأيام اللاحقة. ووفق أرقام رسمية أوروبية، عبر من بيلاروسيا إلى ليتوانيا، منذ مطلع العام الحالي، أكثر من أربعة آلاف شخص، معظمهم عراقيون من إقليم كردستان. هذه الأرقام الكبيرة لا تعني أننا إزاء حالات فردية، بل هي نوع من موجة هجرة جماعية من مدن الإقليم، إذ كشفت منظمة «لوتكه» المعنية بشؤون اللاجئين، أن أكثر من 193 ألف شخص هاجروا من العراق منذ عام 2018، غالبيتهم من مناطق إقليم كردستان، ويقول آري جلال مسؤول المنظمة؛ إن الأشهر العشر الأولى من عام 2021 سجلت هجرة أكثر من 37 ألف شخص من العراق، معظمهم من إقليم كردستان.


حكومة الإقليم ادعت أن ظروف المعيشة في مدن كردستان العراق طبيعية مع وجود بعض الصعوبات الاقتصادية، وقد صرح عدد من قادة حكومة الإقليم وقيادات الأحزاب النافذة نافين الاتهامات التي وجهت لحكومة إقليم كردستان، ومن أهم الاتهامات، أن هنالك أسبابا سياسية واقتصادية تقف وراء هجرة الشباب الكرد، فقد صرح مسؤول مكتب العلاقات الخارجية في الحكومة سفين دزيي، بقوله؛ إن «هناك من يتاجر بالسياسة والإنسان في كردستان للإساءة إلى سمعة الإقليم، وتعمل مافيات وعصابات ومهربون على المتاجرة بملف الهجرة، والشعب أصبح ضحية هؤلاء». كما قال الناطق الرسمي باسم حكومة الإقليم جوتيار عادل في مؤتمر صحفي يوم 11تشرين الثاني/نوفمبر؛ إن «الهجرة مسألة طبيعية وعالمية، وقد اجتاحت بلدان الشرق الأوسط، ومن ضمنها الإقليم والعراق، وإذا ما قارنا بين الإقليم وبلدان المنطقة، فإن الوضع هنا أفضل بكثير، وبالطبع سنتعامل معها بكل مسؤولية وسندرسها». وربما كان أوضح تلك التصريحات النافية لوجود مشاكل في الإقليم، هو ما جاء على لسان مسرور بارزاني رئيس حكومة الإقليم، الذي قال في «ملتقى الأمن والسلام» في الجامعة الأمريكية في دهوك يوم 16 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري؛ إن «هجرة المواطنين الكرد محل قلق عميق بالنسبة لنا، وأولوياتنا الآن هي سلامة المواطنين الكرد الموجودين على الحدود البيلاروسية في ظروف حياتية قاسية»، مبينا أن «هؤلاء المهاجرين لم يغادروا لأسباب سياسية، أو نتيجة ضغوط حكومة الإقليم، إنما غادروا بإرادتهم، وسلكوا الطريق القانوني، فيما وقع جزء منهم ضحية احتيال شبكات التهريب والاتجار بالبشر». وأشار بارزاني إلى «أن حكومة الإقليم، على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة بسبب عدم إرسال الميزانيات من قبل الحكومة الاتحادية، وفرت 100 ألف فرصة عمل»، وتساءل: «لماذا يأتي الناس من باقي مناطق العراق والبلدان الأخرى للعمل في الإقليم؟». التصريحات الكردية الرسمية أثارت سخرية واستهجان الكتاب والصحفيين الكرد، الذين ردوا بمرارة على ما جاء فيها، إذ صرح الكاتب والصحفي الكردي سامان نوح قائلا؛ «هناك نحو 200 ألف خريج جامعي جديد ينتظر أغلبهم التعيين في الدوائر الحكومية، فضلا عن مئات الآلاف ممن لم يكملوا تعليمهم، وينتظرون أيضا الحصول على فرص عمل تناسبهم»، وأوضح: «المشكلة أن فرص العمل قليلة، وينافس الشباب الكرد عليها السوريون، فضلا عن المواطنين العرب العراقيين القادمين من باقي مناطق البلاد، إلى جانب الأتراك، علما أن الشركات التركية هي التي تستحوذ على مشاريع الإعمار والبناء في الإقليم، ونسبة تشغيل الأتراك فيها تتجاوز الـ60%».


أما عن الأسباب السياسية الدافعة لهجرة الشباب من إقليم كردستان، فيشير سامان نوح إلى ذلك بقوله؛ «إلى جانب البطالة، هناك مشكلة عدم الاستقرار السياسي في الإقليم، فالصراعات كبيرة بين القوى الكردية، والصراعات داخل تلك القوى كبيرة جدا، وهي تنعكس سلبا على الشارع، وتثير قلق أبناء إقليم كردستان بشأن مستقبلهم، خاصة في ظل ضعف الحكومة أمام قوة الأحزاب، وعجز البرلمان وبقية المؤسسات، فالقادة الحزبيون هم من يسيطرون فعليا على كل مفاصل الإدارة والاقتصاد والقرار في الإقليم، ما يعني أن دور المؤسسات مغيب، وأن المواطنين غير متساويين أمام القانون، فلا مساواة بين الحزبي وغير الحزبي، والنتيجة شعور شريحة واسعة من المواطنين بأنها محرومة من حقوقها الأساسية، فيما المسؤولون يتمتعون بامتيازات كبيرة».


الحكومة العراقية تحركت لاحتواء أزمة مواطنيها العالقين على الحدود البولندية، وسيرت العديد من الرحلات وبشروط ميسرة، مع منح جوازات سفر مؤقتة لمن فقد جواز سفره أو أتلفه، وتم نقل بضع مئات من العالقين الذين أعيدوا إلى وطنهم، ليبقى السؤال الذي طرح بكثافة في منصات التواصل الاجتماعي تعليقا على صورة أحد الشباب العائدين إلى العراق وهو ينزل من الطائرة رافعا أصبعيه بشارة النصر؛ على من، أو على ماذا انتصر هذا الشاب؟

 

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)