يتساءل أهل الغرب وهم يرون آلاف
اللاجئين يموتون على حدود أوروبا من البرد والجوع، ويتابعون أخبار الذين يبتلعهم المتوسط، في حدث بات شبه يومي: ترى مم يهرب هؤلاء؟ وما هو الخطر الذي يلاحقهم ويدفعهم لخوض مغامرة تفوق فيها احتمالاتُ الموت احتمالاتِ النجاة؟ وإذا كان السبب
الاستبداد والفساد فلماذا لا يواجهونه؟ لمَ لا يسقطون هذه الأنظمة التي تسوقهم لهذه المصائر البائسة؟
في السنوات العشر الأخيرة تضخمت قائمة الشعوب المقهورة، تغيرت أنماط الاستبداد والفساد بشكل جذري، بالتزامن مع تغيرات هيكلية في الاقتصاديات الوطنية نتيجة العولمة، وظروف المناخ التي كانت شعوب العالم الثالث أولى ضحاياها. فقد شهدت السنوات العشرون خروج مساحات شاسعة من الأراضي من الاستخدام الزراعي، وموت الكثير من المهن والصناعات.. جزء من هذا المشهد كان نتيجة ظروف طبيعية، والجزء الآخر كان نتيجة سياسات منحازة ضد الفقراء اتبعتها الأنظمة التسلطية التي تحكم غالبية بلدان الجنوب.
كان الاستبداد والفساد - ربما بسبب تخلف أدواتهما وأساليبهما - أقل وطأة، كانت تجد الشعوب ما تقتات به، وتجد الوسائل للتعبير عن رفضها وغضبها، صحيح أن هذه الشعوب لم تحقّق الرفاه ولم تنجز التحوّل الديمقراطي في بلادها، لكنها لم تصل إلى حد العيش على حافة الفناء كما هو حاصل اليوم
قبل هذا الوقت كان الاستبداد والفساد - ربما بسبب تخلف أدواتهما وأساليبهما - أقل وطأة، كانت تجد الشعوب ما تقتات به، وتجد الوسائل للتعبير عن رفضها وغضبها، صحيح أن هذه الشعوب لم تحقّق الرفاه ولم تنجز التحوّل الديمقراطي في بلادها، لكنها لم تصل إلى حد العيش في حافة الفناء كما هو حاصل اليوم، حيث ازدادت ندرة الموارد بشكل غير مسبوق، لدرجة وصلت إلى حد حصول نقص هائل في أضر الضروريات: الخبز والماء.
لقد ساهم عصر العولمة بإنتاج جزء كبير من هذا المشهد السوداوي، وعلى عكس التوقعات وما بشرت به الأدبيات السياسية؛ من إقدام العالم على عصر الرخاء نتيجة تدفق السلع والبضائع بحرية وتوفر الغذاء نتيجة تطور تكنولوجيات إنتاجه وضمانات استمرار سلاسل التوريد بدون انقطاع، فضلاً عن تحوّل العالم الحتمي إلى نمط الديمقراطية الليبرالية، حيث تسود فكرة القرية الكونية، وسيجد حكام العالم أنفسهم مضطرين للانخراط بهذه المعادلة الجديدة، وإلا فإنهم سيواجهون العزلة والنبذ في عالم بات كل شيء فيه مكشوفا ولا إمكانية لإخفاء وتورية سياسات الاستبداد والاضطهاد!
تكشف المآلات التي وصلت لها أجزاء من العالم، ومن ضمنها منطقة الشرق الأوسط، مثالية هذه الطروحات، وربما عجزها عن قراءة مكانيزمات وآليات الاستبداد والفساد في بلادنا، وقدرة الأنظمة على التكيّف مع المعطيات الجديدة وركوب موجة التحوّلات، بل واستثمار التقنيات التي أتاحتها التطورات التكنولوجية لخدمة أهدافها في النهب والسطو على ثروات بلادها، وتعزيز قدراتها القمعية بشكل كبير.
تكشف المآلات التي وصلت لها أجزاء من العالم، ومن ضمنها منطقة الشرق الأوسط، مثالية هذه الطروحات، وربما عجزها عن قراءة مكانيزمات وآليات الاستبداد والفساد في بلادنا، وقدرة الأنظمة على التكيّف مع المعطيات الجديدة وركوب موجة التحوّلات
في السنوات العشرين الأخيرة برزت ظاهرة الحكام المليارديرات، ولم تعد وظيفة الحاكم مقتصرة على الحكم كما لم تعد صفة الحاكم وحدها كافية، فقد عمد الحكام إلى جمع ثروات هائلة من أموال الدولة، سواء من خلال ما يتم تحصيله مباشرة من أموال بيع الثروات الوطنية والاقتطاع من موازنات الدولة، أو من خلال شراكتهم للشركات والمستثمرين الأجانب، أو عبر احتكارهم من خلال واجهات يقومون بصناعتها، لتجارة أصناف معينة من البضائع، أو حتى عبر منح الامتيازات للأطراف الخارجية وحصولهم على أثمان مقابل ذلك.
أفرزت هذه الظاهرة ظاهرة أخرى تمثلت بوجود وكلاء للحاكم، سواء من أقربائه أو شخصيات مقربة للإشراف على تحصيل العوائد، وبالإضافة لحصولهم على الضوء الأخضر للعمل بأريحية. فقد كان هؤلاء الوكلاء من الصنف الذي لا يرحم، وكانوا يتعاملون مع الموقف على أنه فرصة قد لا يطول مداها كثيراً، لذا عمدوا إلى تجفيف المجتمعات من ثرواتها ومدخراتها بأساليب شتى، ووضعها على حافة الإفلاس.
حسناً، لماذا لا تثور شعوب هذه البلدان؟ لماذا لا تسقط الطغاة؟ لم تختار أسوأ الخيارات كالوقوف على حدود الدول تنتظر شفقة حكوماتها، أو الموت تجمداً في الغابات وغرقاً في البحار؟
ينطوي هذا السؤال على قدر هائل من السطحية؛ كونه يغمض العين عن الأهوال التي عاشتها الشعوب التي حلمت بالتغيير وثارت ضد حكامها، حيث تعرض بعضها لإبادات وتم استخدام كل أنواع الأسلحة في مواجهتها، وتكالب مستبدو الداخل وأقرانهم من مستبدي الخارج في حفلة قمع رهيبة ما زال دخانها ينبعث من جسد تلك الشعوب.
الهروب ولا شيء سواه للخروج من هذه الدائرة الجهنمية، الهروب عبر خوض المغامرات وتجريب الاحتمالات، فكلها أفضل من البقاء والاستمرار في أوضاع لا أفق لنهايتها. والمفارقة أن الهروب رغم كل ما ينطوي عليه من آلام واحتمالات الموت وفقد بعض أفراد العائلة؛ خيار ليس بيد الجميع وربما بات ترفاً لا تملكه إلا القلة
لو كانت أنظمتنا تسقط بالتظاهر والاعتصام والاحتجاج والإضراب لما خرج أحد من بلده، لو كانت هناك محاكم وحتى لو حكمت بتحيّز للحكام، لظلّ الناس في بلادهم، لكن ماذا سيفعلون أمام عصابات قد تبتزك بابنك وزوجتك؟ ماذا تفعل بمواجهة عصابات تريد تجويعك وإن نبست بكلمة اعتراض تقتلك؟ ماذا تفعل بمواجهة من يملك جيوشاً وأسلحة وشبكات علاقات خارجية هائلة وأنت أعزل؟
الهروب ولا شيء سواه للخروج من هذه الدائرة الجهنمية، الهروب عبر خوض المغامرات وتجريب الاحتمالات، فكلها أفضل من البقاء والاستمرار في أوضاع لا أفق لنهايتها. والمفارقة أن الهروب رغم كل ما ينطوي عليه من آلام واحتمالات الموت وفقد بعض أفراد العائلة؛ خيار ليس بيد الجميع وربما بات ترفاً لا تملكه إلا القلة، ولولا تكاليفه المادية التي لا تقدر عليها الغالبية لرأيت أوطاناً بكاملها تحمل على ظهورها بقج ملابسها وتهيم على وجهها، ما دامت هائمة في أوطانها بلا جدوى.
twitter.com/ghazidahman1