لأنها تفقد يوما بعد يوم حضورها الإقليمي والدولي، ولأنها لا تقف على أرض صلبة، وقد تهالكت الجدران التي كانت تسند ظهرها إليها؛ لم يعد يحسب لها كبير حساب من قبل دول عربية وغير عربية، وبدا في الآونة الأخيرة أن
مصر السيسي باتت مستهدفة، وأن سياجها المهترئ صار معبرا سهلا للطامعين والانتهازيين الإقليميين والدوليين، وكذلك للمنصفين العاملين في مجال
حقوق الإنسان من هيئات الأمم المتحدة والمنظمات العاملة خارج الحدود، إضافة إلى المعارضين والمظلومين المطلوبين للعدالة الفاشية..
الوضع الداخلي
لقد خفت صوت السيسي، وصارت خطاباته الجماهيرية ولقاءاته بالشباب والعسكريين والسياسيين وتحركاته داخل القطر وافتتاحه للمشاريع؛ قليلة لا تكاد يسمع لها صوت، إذا ما قورنت بما كان قبل شهور قليلة، حيث صدع رؤوسنا بمستويات مختلفة من الخطابات وأحاديث اللقاءات المتكررة بأجهزة الدولة التي تنطوي على كثير من التناقضات والاختلالات والتصريحات غير المحسوبة، ناهيك عن الاستظراف المثير للسخرية والضحك..
لقد خفت صوت السيسي، وصارت خطاباته الجماهيرية ولقاءاته بالشباب والعسكريين والسياسيين وتحركاته داخل القطر وافتتاحه للمشاريع؛ قليلة لا تكاد يسمع لها صوت، إذا ما قورنت بما كان قبل شهور قليلة
وفي هذه الأثناء جاءت تصريحات رجل الأعمال نجيب ساويرس اللافتة للانتباه حول استحواذ الجيش على المشروعات الاقتصادية، وتعريضه بهذا الاستحواذ؛ ليُطرح السؤال الأول عن صمت السيسي إزاء ما قاله ساويرس، وعدم اتخاذه إجراءً بحقه، كعادته في مثل هذه المواقف، هذا إذا استثنينا الهجوم الإعلامي التهكمي الاستعلائي عليه من قبل أحمد موسى وأمثاله، كما جرت العادة.. فما الذي تعنيه جرأة ساويرس المفاجئة؟! ولماذا الآن؟! وأين ردة الفعل الرسمية؟!
وفي وقت متقارب يأتي بيان أهالي الضباط المعتقلين والذي تميز بالجرأة والقوة، حيث جاء في البيان: "نحن أهالي ضباط الجيش المعتقلين في قضايا سياسية مُلفقة منذ أكثر من سبع سنوات، نهيب بالعالم أن يتدخل لإنقاذ أولادنا المعتقلين من خيرة ضباط مصر، خاصة في ظل تعنت قائد السجن، اللواء خالد سلطان، معهم بشكل شخصي".
ونلاحظ في البيان لافتين بارزين؛ الأول: وصفه الاتهامات التي وجهت للضباط بالملفقة، وهو اتهام مباشر وصريح للنيابة العامة العسكرية والقضاء العسكري بتلفيق التهم. والثاني: استغاثة البيان بالعالم. وكلمة "العالم" هنا تحتمل الكثير من التأويلات، ولا أظنها جاءت مصادفة أو عن قصور في التعبير، فالبيان مصوغ بعناية، وكلمة "العالم" تعني بالضرورة الولايات المتحدة وأوربا والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان.. ولم نسمع حتى لحظة كتابة هذا المقال أي رد حكومي أو عسكري على هذا البيان أيضا..!!
ومن الأمور المريبة والغريبة في الوقت نفسه؛ اختفاء وزيرة الصحة هالة زايد بعد اكتشاف تلاعب وسرقات في وزارتها، وتعرضها لأزمة قلبية، سببها - على ما يبدو - الكشف عن صلتها بالتلاعب الحاصل في أموال الوزارة. لكن الأغرب هو عدم تعيين وزير جديد مع الحاجة الملحة لوجوده لمواجهة تطورات الجائحة، وظهور المتحور "أوميكرون"، لا سيما أن من تلقوا جرعتي اللقاح لا يزيدون عن 15 مليونا ليس إلا..
يأتي ذلك في ظل ضربة جديدة للإجراءات العسكرية المتخذة من قبل الجيش المصري بقصف مدنيين يعملون في التهريب بين مصر وليبيا على أنهم إرهابيون، حسب تقارير عسكرية فرنسية. ومما جاء في خبر صحافي: "انتقد المفكر الفرنسي والباحث بالهيئة القومية الفرنسية للبحث العلمي، فرانسوا بورغا، انزعاج الحكومة الفرنسية من تسريب وثائق عن تقديم الجيش الفرنسي معلومات استخباراتية لمصر استخدمتها الأخيرة لاستهداف مهربين عند الحدود مع ليبيا وليس مسلحين، بزعم انتهاك سرية الدفاع الوطني، ولم تنزعج لمقتل المدنيين"..!!
مثل هذا التجاوز المصري الفرنسي والاستخفاف بأرواح المصريين مما يندى له الجبين، ويبعث على السخرية، ويدل على هشاشة البنية العسكرية المصرية تجاه إجراءات عسكرية مهمة يمكن الوقوع في خطئها مرة واحدة بسوء تقدير، لا بمرات عدة بناء على تقارير عسكرية فرنسية بعيدة عن الواقع
وأظن أن مثل هذا التجاوز المصري الفرنسي والاستخفاف بأرواح المصريين مما يندى له الجبين، ويبعث على السخرية، ويدل على هشاشة البنية العسكرية المصرية تجاه إجراءات عسكرية مهمة يمكن الوقوع في خطئها مرة واحدة بسوء تقدير، لا بمرات عدة بناء على تقارير عسكرية فرنسية بعيدة عن الواقع؛ وهو ما يؤشر على قصور واضح في القدرات اللوجستية لفرنسا التي تعامل معها الجيش المصري بوصفها قدرات خارقة، ولم يكلف نفسه محاولة التأكد من صحة المعلومات..!!
ومنذ أيام قليلة كشف تسريب لأحد مستشاري السيسي برتبة لواء؛ عن رشاوى واختلاسات بعشرات ملايين الجنيهات بالتآمر مع مستشارة في القصر الجمهوري. والضابط هو فاروق القاضي، الذي ظهر صوته وصوت محدثته المستشارة ميرفت محمد بوضوح شديد، وهو ينسق معها للاستيلاء على أموال طائلة من خلال عقود تبرمها القوات المسلحة مع مقاولين من الباطن. وتفاصيل المحادثة كارثية، ففيها الكثير من الإيضاح الشديد لطرق الحصول على المال والامتيازات بدون وجه حق، ناهيك عن المكاسب التي كشف عنها المستشار والتي يحصل بمقتضاها كبار موظفي القصر الجمهوري على امتيازات خرافية تكاد لا تصدق، وقد جاء حديث المستشار بكثير من الجرأة والوقاحة والتفاخر بالخسة على حساب الشعب المطحون..!!
فإذا أضفنا إلى ذلك استمرار الانهيار في قطاعي الصحة والتعليم، والغلاء وزيادة نسبة الفقر والعمل الدؤوب على افتراء أنواع جديدة من الضرائب مع ارتفاع قيمتها التي قصمت ظهور المطحونين المغلوبين على أمرهم، نجد أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي يزداد سوءا يوما بعد يوم.. وهو ما ينذر بوابل من الاحتمالات غير المطمئنة للنظام القائم، لا سيما في ظل الغلاء العالمي وارتفاع أسعار السلع الضرورية..
الوضع الاجتماعي والاقتصادي يزداد سوءا يوما بعد يوم.. وهو ما ينذر بوابل من الاحتمالات غير المطمئنة للنظام القائم، لا سيما في ظل الغلاء العالمي وارتفاع أسعار السلع الضرورية
الوضع الإقليمي والدولي
في منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر الفائت أصدرت مؤسسة مشروع العدالة الاجتماعية الأمريكية تقييمها الدوري حول التزام الدول بسيادة القانون لعام 2021، واحتلت مصر المرتبة 136 من بين 139 دولة.. وهو مؤشر غاية في القبح والرداءة في ما يتعلق بحالة العدالة الاجتماعية وسيادة القانون في مصر، حيث يحاول النظام القيام بعمليات تجميل مخادعة لوضع حقوق الإنسان، ولكنها محاولات مثيرة للضحك، ولا يخفى خبثها على أحد..!!
فإذا انتقلنا إلى تسريب الوثيقة المتعلقة بمحمد بن سلمان، حيث وصفه السيسي بقوله: "دا عيل".. تثور التساؤلات من جديد: لماذا يتم تسريبها الآن مع أن السيسي قال ما قال قبل نحو ثلاث سنوات؟ ومن الذي سربها؟ ولصالح من؟!
لا أعتقد أن الأمر مرتبط بمحض الصدفة، فهذا التصريح - بالضرورة - ستكون له ردة فعل من أمير طائش نزق كمحمد بن سلمان؛ الذي رأينا ردة فعله تجاه تصريحات قرداحي التي مست حربه في اليمن، فكيف إذا مست تصريحات السيسي شخصه المنتفخ غرورا..؟! فمن المستفيد من تخريب العلاقة بين السيسي وابن سلمان أو مصر والسعودية في الوقت الحالي؟ وهل ثمة علاقة بين ذلك وبين تجاهل دول الخليج لمصر مؤخرا..؟!
وثمة حراك دبلوماسي فاعل قوامه الإمارات وتركيا والسعودية وقطر وإيران، ولا وجود لمصر في أي من هذه التحركات لا من قريب ولا من بعيد، بل على العكس، نجد حراكا إماراتيا مؤيدا لإثيوبيا وداعما لها بخلاف إرادة مصر ومصالحها. فقد فتحت الإمارات جسرا جويا لتقديم الدعم العسكري للجيش الإثيوبي، ونقلت له كميات كبيرة من الأسلحة والطائرات المسيرة من خلال ما يزيد عن مئة رحلة جوية بين أبو ظبي وأديس أبابا، ولم يزل الجسر الجوي يعمل حتى اللحظة؛ بما يقوي موقف آبي أحمد في مواجهة العصيان المسلح للتيغراي، وهو ما يؤثر سلبا على توقعات مصر وأمنياتها تجاه مستقبل آبي أحمد. فهي تتمنى أن يتوقف مشروع سد النهضة أو أن يتأجل لوقت طويل، في حال حدوث فوضى في إثيوبيا، ثم في حال عودة الاستقرار لإثيوبيا يكون ثمة مجال لتفاهمات جديدة مع الحكومة التي ستشكل من بعد. وقد جبنت مصر عن دعم التيغراي، مع أن ذلك يصب في مصلحتها بشكل كبير ويطيل أمد الحرب الدائرة بين طرفي النزاع..
ولم يتوقف دعم إثيوبيا على الإمارات، بل زادت الصين الطين بلة، فقدمت للأولى مساعدات عسكرية عاجلة؛ فلبكين مصالح اقتصادية في إثيوبيا، ومشروعات ضخمة، لا تفرط بها بسهولة.. وحيث تتضارب المصالح ثمة خاسر واحد على الأقل، وهنا لا يكون الخاسر سوى مصر؛ في ظل قيادة لا تملك من أمرها سوى الصراخ الإعلامي والانكفاء على الذات والانتظار بلا خارطة طريق..!!
إلى ذلك، لم يكن أحد يتوقع أن تقوم الخارجية الهولندية بإصدار تقرير مكون من 118 صفحة يتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان والأوضاع الحقوقية والسياسية والاختفاء القسري في مصر. ولا أدري إن كانت ثمة علاقة بين التقرير وبين وجود مقر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي؛ ذلك أنه من غير المعتاد أن تقوم وزارة الخارجية الهولندية بإصدار تقارير عن حقوق الإنسان في حق الدول، وبهذا العدد من الأوراق.. والسؤال هنا: ما الدافع الخفي لما أقدمت عليه هولندا؟ ومن وراءه؟ ولماذا في هذا التوقيت؟! ولم تقدم لنا مصر إجابة عن هذا السؤال، سوى أنها هاجمت التقرير ومصدره في إعلام أحمد موسى وجوقته..
وقبل نحو عشرة أيام، وتحديدا في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر أصدرت لجنة برلمانية إيطالية تقريرا يحمّل الأمن المصري بوضوح المسؤولية عن قتل ريجيني.. والسؤال المتكرر: لماذا الآن وبعد نحو ست سنوات من حدوث الجريمة؟! فما الذي يحدث؟!
مع أنني لا أميل كثيرا إلى نظريات المؤامرة، إلا أن هذه الأحداث والمواقف؛ تجعلني أخمّن بأن ثمة توجهات دولية لإضعاف السيسي تمهيدا لعزله واستبداله بشخص آخر يكون أكثر اتزانا وأكثر قدرة على حماية مصالح الغرب والكيان الصهيوني
وأخيرا أصدرت منظمة "كوميتي فور جستس" في تقرير نشرته بالتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان؛ تحدثت فيه عن استمرار الانتهاكات لحقوق المواطنين على الرغم من الزعم بإلغاء العمل بقانون الطوارئ. وتحدث التقرير عن وقائع وأحداث وقعت في مئة اليوم الأخيرة تؤكد استمرار الانتهاكات، والإسراف في الكذب والتحايل المكشوف على المجتمع الدولي..
فإذا أضفنا إلى ذلك كله رفض الرئيس الأمريكي جو بايدن لقاء السيسي على هامش قمة المناخ التي عقدت في أستكتلندا؛ نخرج بنتيجة مفادها أن السيسي ربما لم يعد ذلك الشخص المرغوب في بقائه رئيسا لأكبر دولة عربية. ومع أنني لا أميل كثيرا إلى نظريات المؤامرة، إلا أن هذه الأحداث والمواقف؛ تجعلني أخمّن بأن ثمة توجهات دولية لإضعاف السيسي تمهيدا لعزله واستبداله بشخص آخر يكون أكثر اتزانا وأكثر قدرة على حماية مصالح الغرب والكيان الصهيوني، بدون أن تثير الشعب المصري ضدها.. والأيام وحدها قادرة على كشف ما خفي، و"إنّ تحت الضلوع داءً دوياً"..!