ليست مصادفة أبدا؛ وإن بدت كذلك للوهلة الأولى، أن يتزامن إعلان رئيس الوزراء
السوداني، عبد الله حمدوك، عن استقالته مع أمرين: إعدادي لهذا الجزء المخصص لعلاقة زعيم "الأربعون حرامي" ونستون
تشرشل بالسودان، واطلاعي على إعلان عن كتاب جديد؛ ذلك أن ما أحاول الكشف عنه وإثباته (في هذه السلسلة) هو تأثير ما جرى في مؤتمر القاهرة 1921 على الحاضر، واتصاله به.
* * *
في ربيع عام 1898، جاء تشرشل إلى
مصر، البلد المحتل (1882)، والتي كانت بوابة إلى احتلال "مزدوج" للسودان. وكان الشاب (في الثالثة والعشرين من عمره) الذي سبقته سمعته بوصفه واحداً من "أصحاب الرؤوس الحامية، ومن أشد المدافعين عن الرؤية الاستعمارية، والمغالي في احتقاره للشعوب الخاضعة للاحتلال؛ ولا سيما منها شعوب الإمبراطورية البريطانية"، يرمي إلى الانضمام إلى القوات الأنجلو- مصرية في القاهرة والتي تتجهز للذهاب إلى السودان.
كان تشرشل قد مر بـ"تدريب" استعماري متعدد الأوجه، وقد عاد لتوه من الحرب الأفغانية، حيث كان يتابعها من خلال عمله كمراسل حربي، وذاع صيته إلى حد ما، بكتابته عنها في الصحف البريطانية، لتعليقات وتحليلات ساخرة، وحادة أحيانا، تنتقد الخطط الحربية والتوجهات السياسية للسيطرة على "التمرد". ولهذه "السمعة" فقد بذل جهودا كبيرة، مرتكزا على نفوذ عائلته الكبيرة وضغط من أرفع المستويات حتى يقبل اللورد كيتشنر، القائد العام للجيش البريطاني (والمصري) في مصر في ذلك الحين، أن يضمه كضابط "متطوع" إلى قواته، التي كانت تستعد كي تنهي ثورة المهدي، وتتجهز لـ"سحق التمرد"، واستعادة العاصمة السودانية إلى النفوذ البريطاني، مضمرا (تشرشل) هدفه الرئيسي، كمراسل حربي لجريدة "مورنينج بوست".
وقبل أن ينضم إلى الفرسان حاملي الرماح، تحت قيادة الجنرال هربرت كيتشنر (1850- 1916)، زار تشرشل الأقصر. ثم في آب/ أغسطس توجه إلى السودان، ليتابع معركة أم درمان (أيلول/ سبتمبر)، والتي وصفها بأنها "آخر مهمة ذات هدف لسلاح الفرسان البريطاني". في الشهر التالي عاد تشرشل إلى
بريطانيا وشرع في تأليف عمله المكون من مجلدين بعنوان "حرب النهر"؛ وهو كتاب يروي قصة احتلال السودان مرة ثانية، وصدرت النسخة الأولى منه عام 1899.
تضمن الكتاب انتقادات حادة وتفصيلية لتصرفات قائده (كتشنر) خلال الحرب، لا سيما معاملته غير الرحيمة لجرحى "العدو" وتدنيسه لمقبرة محمد أحمد (المهدي) في أم درمان.
مفهوم، بالطبع، أن النهر في عنوان الكتاب هو النيل، فمعظم عروض الكتاب، والتحليلات لما تضمنه، تبرز أهمية النهر بالنسبة لرؤية تشرشل، فهو حسبما كتب إبراهيم العريس: "ينطلق من النهر ليعود إليه معتبراً إياه محور الحرب الحقيقي، وسبيلها. النهر الذي يقول عنه تشرشل؛ الأمير والدرويش، الضابط والجندي، الصديق والعدو، يركعون أمام سيد مصر القديمة هذا. ومن هنا لا يبتعد تشرشل عن النيل في صفحة من كتابه إلا ليعود إليه. ومن الواضح أن جل ما كان يتمناه الكاتب والجندي البريطاني الشاب في ذلك الحين، هو أن يصبح النهر ملكاً خاصاً له ولأمته. لقد دخل في حالة عشق مع هذا النهر".
في الكتاب سيل من التعابير العنصرية الصريحة، هذا مثال لها: "إن المزيج الزنجي والعربي قد ولّد سلالة لا شك أنها شديدة القسوة والانحطاط، لكن الأكثر إثارة للصدمة هو أنها أكثر ذكاء من العنصرين اللذين تكونت منهما".
في 5 أيار/ مايو 1899، استقال تشرشل من الجيش البريطاني. ومنذ ذلك
التاريخ، انهالت عليه العديد من الفرص للانخراط في العملية البرلمانية؛ وكانت البداية حينما عُرض عليه الترشح في الانتخابات عن دائرة "أولدهام" كثاني مرشح عن حزب المحافظين. لكن بعض الأحداث (لا حاجة لتفصيلها) أدت إلى إعادة الانتخابات مرتين، وفي المرتين خاض تشرشل المعركتين بحملتين انتخابيتين هائلتي الدعائية، استنادا لمنجزه "المزدوج" في السودان، لكنه خسر في المرتين.
هذه تفصيلة ذات دلالة بالغة الأهمية، وسيتبين القصد إذا تم تذكر أن تشرشل، الذي جرى تعيينه وزير دولة للمستعمرات في شباط/ فبراير 1921، وجاء للقاهرة في الشهر التالي مباشرة كي يرسم (ينشئ) حدود دول، وينصب ملوكا وأمراء، ويفصل شرقي نهر الأردن عن غربه، وجد نفسه يفقد المنصب الوزاري جراء انسحاب حزبه (المحافظون) من حكومة ديفيد لويد جورج الائتلافية، مما عجل بالانتخابات العامة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1922، وفيها خسر مقعده النيابي، وكتب لاحقاً أنه كان "بلا مكتب، وبلا مقعد، وبلا حزب، وبلا ملحق".
والمعنى (إن لم يتضح تماما) أن الملازم الشاب، والاستعماري المتحمس، يمتلك حق انتقاد قائد جيشه واستراتيجيات حكومته، وهو إذ حقق "سمعة" حربية (باعتباره مشاركا في القضاء على ثورة استمرت لعشر سنوات) و"سمعة" كصحفي، خسر في الانتخابات النيابية، وقد تكرر الأمر بعد مؤتمر القاهرة 1921، لكن ما رسمه ظل يتسبب في كوارث متتالية.
* * *
يكاد يُجمع كل من كتب عن مؤتمر القاهرة 1921 على أنه "يمكن إرجاع جانب رئيسي من تاريخ واضطرابات الشرق الأوسط الحديث إلى مؤتمر القاهرة، حيث تم ترقيع العراق من مناطق شيعية وسنية وكردية، الأكراد لم يعطوا وطنهم، تم تقسيم فلسطين إلى نصفين، مع التركيز على منح اليهود النصف الآخر في نهاية المطاف".
وهناك ركام هائل من الصياغات "الاستعمارية"، لما جرى في المؤتمر: "وافق مؤتمر القاهرة - وهو اجتماع لخبراء بريطانيين في الشرق الأوسط - على خطة لمنح السيطرة على قطعتين كبيرتين من الأراضي التركية السابقة التي كانت بريطانيا تسيطر عليها لأمراء هاشميين؛ فتم الاتفاق على أن الأمير فيصل سيصبح ملكاً لبلد جديد تم إنشاؤه من (مقاطعة) بلاد ما بين النهرين التركية؛ سوف يطلق عليه العراق، وسيحكم شقيقه الأمير عبد الله دولة مكونة من فلسطين غربي نهر الأردن: شرق الأردن (الأردن الآن)".
* * *
ضمن إعدادي لهذه السلسلة كنت مهتما بالبحث عن الجديد من الكتب والدراسات، فوقعت على إعلان ترويجي لكتاب (Cairo 1921- Ten Days that Made the Middle East) "القاهرة 1921- عشرة أيام صنعت الشرق الأوسط"، لـ "س. براد فاوث"، وهو أستاذ كرسي التاريخ والدراسات العالمية، قسم التاريخ والدراسات العالمية في جامعة "تيندال"، بمدينة تورنتو الكندية، وهي جامعة مسيحية تأسست قبل مؤتمر القاهرة بنحو ربع قرن. الكتاب سيصدر في تموز/ يوليو المقبل، عن مطبعة جامعة ييل الأمريكية.
الإعلان الترويجي للكتاب قصير، لكنه يفيد ما قصدته من عرض مفارقة "سكوتنا" عن تاريخنا، ومنطلقي من هذا البحث، حيث أسعى للكشف عن تأثير المؤتمر المستمر حتى اللحظة، فالإعلان يبدأ بالتبشير بأن الكتاب "أول تاريخ شامل لمؤتمر القاهرة عام 1921، و(إنه) يكشف عن تأثيره (المؤتمر) الدائم على الشرق الأوسط الحديث".
وكان لزاما، البحث عن المزيد من المعلومات، وقد تبين أن الأستاذ "فاوث" قد أصدر من قبل عدة كتب، في نفس مجال بحثه (وبحثي)، فقرأت بعض العروض السريعة، عنها، وها هي فقرات عن ثلاث منها:
1- جوردون: البطل الفيكتوري (2008): يتناول الكتاب شخصية تشارلز جورج جوردون (1833- 1885)، المعروف بلقب "جوردون الصين" و"جوردون باشا- مصر" و"جوردون الخرطوم"، لأنه كان قائدا عسكريا بارزا، وحاكما، خدم جيوش الإمبراطورية البريطانية في البلاد الثلاثة، وقد قتله ثوار السودان يوم تحرير الخرطوم؛ ففي فجر يوم الاثنين 26 كانون الثاني/ يناير 1885، استطاع ثوار سودانيون عبور النيل الأبيض والانضمام للقوات التي كانت تحاصر الخرطوم لمدة 317 يوما (بدأ الحصار في آذار/ مارس 1884)، وفي صباح 26 كانون الثاني/ يناير تمكن الثوار من دخول الخرطوم؛ عنوة واقتدارا، ثم اقتحام قصر الحاكم العام البريطاني في مدينة الخرطوم الجنرال جوردون الذي وصل الخرطوم في 18 شباط/ فبراير 1884، وقتله.
كان مقتل جوردون ذا وقع صادم للغاية على الإمبراطورية وجيوشها، فقد كان ينظر له باعتباره "أسطورة حية"، فلم يعرف في حياته كجنرال سوى الانتصارات المتتالية، ومثّل مقتله إهانة كبرى، لكن الإهانة الأعظم من مقتل الحاكم العام "الأسطوري" تمثلت في عجز الإمبراطورية عن إمداد المحاصرين ونجدتهم.
أستاذ كرسي التاريخ الذي يعدد الأماكن التي خدم فيها الجنرال (شبه جزيرة القرم، أوروبا الشرقية، الصين، موريشيوس، وعدة مناطق في إفريقيا، وأخيرا: السودان)، يكرر وصف الجنرال بـ"المسيحي المخلص"، ويصف الثوار الذين ثاروا ضد المحتل الأجنبي بأنهم "المتطرفون الإسلاميون"، وتصف العروض الترويجية الكتاب بأنه "سيرة ذاتية جديدة لشخصية إمبراطورية بريطانية مهمة قتلت على يد متطرف مسلم".
2- كيتشنر: البطل وضد البطل (2016): الكتاب عن القائد العسكري الذي "أخضع" السودان مرة أخرى، وقد عرفنا قصة تشرشل مع حملته تلك. وكتشنر هو المندوب السامي البريطاني في مصر فيما بعد، والذي عرضنا لطرف من حربه المبكرة ضد سعد زغلول (1913)، وتحريضه لعدلي يكن كي يتصدى لهجوم سعد على الحكومة.
3- ألنبي: صُنع الشرق الأوسط الحديث (2020): الكتاب عن إدموند هنري ألنبي (1861- 1936) الضابط والإداري البريطاني، الذي ذاعت شهرته نتيجة دوره الحاسم في الحرب العالمية الأولى حيث قاد قوة "التجريدة المصرية" في الاستيلاء على فلسطين وسوريا عامي 1917 و1918. والمشهور أكثر بمقولته حين دخل القدس: الآن انتهت الحروب الصليبية، وبمشهد دخوله كقائد عسكري منتصر إلى المدينة راجلا، ورُوج لفعله هذا على أنه "إجلال للمدينة المقدسة"، لكن كلماته كانت أوقع وأبعد مدى؛ فها هو الإعلان الترويجي لكتاب أستاذ كرسي التاريخ يصف ألنبي بأنه "صانع" الشرق الأوسط الحديث.
كثيرون، إذن، صنعوا ذلك الشرق الأوسط الحديث، وما هذه السلسلة إلا لتنشيط الذاكرة، والتذكير بـ"الجريمة" التي نرتكبها بالتقاعس عن الدرس والتنقيب، والبحث عن الفاعلين الحقيقيين لوضعنا الكارثي والمزري، الذي يبدو أن السودانيين استثناء فيه، فكما قدموا في نهاية القرن التاسع عشر نموذجا استثنائيا، بحصار جاوز الشهور العشرة، ها هم يواصلون ثورتهم بعزم لا يلين.