قرار
مالي بطرد السفير الفرنسي ردا على بعض الانتقادات الفرنسية للنظام الحاكم في باماكو هو قرار كبير بغض النظر عن بعض الخلفيات. كبير لأنه صدر من دولة صغيرة (19 مليون نسمة) وفقيرة (بين أقل 50 دولة نموا) ضد دولة كبيرة هي إحدى الخمس الكبار أصحاب الفيتو في مجلس الأمن، وإحدى الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية التي كانت تستعمر نصف
أفريقيا.. وكبير لأن مالي دولة حبيسة (لا شواطئ لها) حيث تحدها من كل النواحي الجزائر وموريتانيا والنيجر وبوروكينا فاسو وكوتديفوار وغينيا والسنغال، وأغلبية هذه الدول تشارك في حصارها حاليا تماهيا مع الموقف الفرنسي.
القرار المالي لاقى ترحيبا كبيرا في الداخل عبرت عنه مظاهرات ضخمة وسط العاصمة، ولاقى ترحيبا شعبيا أفريقيا وعربيا، باعتباره استكمالا لمسيرة التحرر من بقايا النفوذ الاستعماري الفرنسي الذي لا يزال يتعامل مع مستعمراته السابقة في أفريقيا وخصوصا دول الساحل، وكأنها لا تزال تحت الوصاية الفرنسية. ومن هنا فإن باريس أطلقت تصريحات ضد النظام الحاكم في مالي باعتباره نظاما انقلابيا فاقدا للشرعية، بينما دعمت العديد من
الانقلابات الأفريقية الأخرى بما فيها مالي نفسها من قبل، أي أن موقفها من النظام الحالي ليس موقفا مبدئيا من الانقلابات العسكرية ولكنه بهدف الابتزاز السياسي، وهذا ربما أسهم في إيجاد حالة تعاطف شعبي مع النظام ضد
فرنسا.
باريس أطلقت تصريحات ضد النظام الحاكم في مالي باعتباره نظاما انقلابيا فاقدا للشرعية، بينما دعمت العديد من الانقلابات الأفريقية الأخرى بما فيها مالي نفسها من قبل، أي أن موقفها من النظام الحالي ليس موقفا مبدئيا من الانقلابات العسكرية ولكنه بهدف الابتزاز السياسي، وهذا ربما أسهم في إيجاد حالة تعاطف شعبي مع النظام ضد فرنسا
الوضع في مالي مربك للمتابع الخارجي، وخاصة لأنصار الحريات بشكل عام، فنحن أمام نظام انقلابي بالفعل، قفز في آب/ أغسطس 2020 على الحراك الشعبي الواسع (حراك 5 حزيران/ يونيو 2020) الذي كان يستهدف الإطاحة بالرئيس المدني (المستبد الموالي لفرنسا) إبراهيم كيتا، وبرلمانه المزيف، ثم قفز هذا الانقلاب مجددا في أيار/ مايو الماضي، غير أنه قبل شراكة هشة مع شخصيات مدنية تولت المناصب الوزارية.
وبالتالي، فإن أصحاب المواقف المبدئية ضد الانقلابات العسكرية يرفضون هذا الانقلاب، ويتمنون أن تنعم مالي بحكم مدني ديمقراطي رشيد ومستقل عن النفوذ الفرنسي، لكن في المقابل فإن جنرالات الانقلاب دخلوا في
مواجهة مع فرنسا لاستكمال مسيرة التحرر الوطني، والإجهاز على ما تبقى من نفوذها الاستعماري -حسب الظاهر من التصرفات- ما حولهم إلى أبطال وطنيين في نظر الكثيرين، وهو ما يذكرنا بالنسخ الأولى من حكم الجنرالات في الدول العربية والأفريقية عقب الاستقلال التي بنت شرعيتها على مواجهة الاستعمار، وتحت هذا الغطاء مارست الاستبداد الداخلي بحق شعوبها.
الانقلابان المتتاليان في مالي (آب/ أغسطس 2020 وأيار/ مايو 2021) فتحا الباب لسلسلة من الانقلابات في أفريقيا التي جاهدت كثيرا لطي صفحة الانقلابات، والتي ينص دستور منظمتها الجامعة "الاتحاد الأفريقي" على تجميد عضوية أي نظام يصل للحكم بطريق الانقلابات، لكن النص لم يصمد أمام موجة الانقلابات الجديدة في أفريقيا؛ بدءا من انقلاب السيسي في 2013 والذي أعاده الاتحاد بعد مرور عام في ما بدا أنه ثمن لموافقته على بناء سد النهضة في إثيوبيا، حاضنة الاتحاد الأفريقي، كما أن دستور المجموعة الاقتصادية لدول الساحل "الإيكواس" يتضمن عقوبات ضد النظم الانقلابية وهو ما حاولت المجموعة فرضه على النظام المالي، غير أنه قوبل بتحد شديد. وساعد النظام المالي على هذا الموقف ضمانه لفتح الحدود الجزائرية والموريتانية والبوركينية، وكان من أحدث المحاولات الانقلابية الفاشلة غينيا بيساو، والتي سبقتها انقلابات ناجحة في غينيا وبوركينا فاسو.
الجديد في الانقلابات الأفريقية هو الدعم الروسي العلني لها، في منافسة واضحة للنفوذ الفرنسي، فما كان لجنرالات مالي الحاليين أن يتخذوا قرارا كبيرا مثل طرد السفير الفرنسي دون سند دولي كبير مثل روسيا وقواتها غير الرسمية "الفاغنر"
الجديد في الانقلابات الأفريقية هو الدعم الروسي العلني لها، في منافسة واضحة للنفوذ الفرنسي، فما كان لجنرالات مالي الحاليين أن يتخذوا قرارا كبيرا مثل طرد السفير الفرنسي دون سند دولي كبير مثل روسيا وقواتها غير الرسمية "
الفاغنر". ولا يرى الكثيرون في مالي مشكلة في هذا التعاون مع روسيا، باعتباره نوعا من استغلال التناقضات الدولية لصالح قضيتهم الوطنية في مواجهة النفوذ الفرنسي، وهو المسار ذاته الذي استخدمه الجنرالات العرب والأفارقة إبان فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي عقب الاستقلال في الستينات وحتى مطلع التسعينات.
الدعم الروسي لجنرالات أفريقيا لا يقتصر على إمدادهم بأسلحة بشروط ميسرة حرمتهم منها فرنسا، لمقاومة الإرهاب في بلدانهم، ولكنه يتعدى ذلك إلى الدعم السياسي في الأمم المتحدة بعرقلة أي قرار عقوبات دولي باستخدام حق الفيتو. وهذا الموقف الروسي الداعم للجنرالات عموما سيشجع المزيد من الانقلابات العسكرية في أفريقيا، ما يمثل ردة ديمقراطية في القارة التي خطت الكثير من دولها خطوات معقولة نحو
الديمقراطية والحكم المدني، لكن هذا لا يعني أن فرنسا هي نصيرة الحريات في أفريقيا، بل هي كغيرها من الدول الغربية توظف قضية الحريات لمصالحها السياسية، فتغض الطرف أو حتى تدعم بشكل علني أو سري بعض النظم العسكرية والاستبدادية، في حين تسن سكاكينها ضد نظم أخرى فقط بسبب مواقفها المعادية لهيمنتها.
twitter.com/kotbelaraby