هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كانت تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بشأن الجزائر والذاكرة الجزائرية عن الاستعمار الفرنسي، استمراراً لحالة من الرفض التاريخي لفرنسا للاعتذار عن ما فعلته خلال احتلالها الجزائر، وإيماناً مستمراً بأنه رغم الاستعمار، فقد كان لها دور حضاري كبير كما تراه أكبر كثيراً من مثالب الاستعمار.
وفي الواقع عكست السينما الفرنسية قبل تحرير الجزائر وبعد تحرير الجزائر، صورة انتقاصية عن الجزائري في وطنه أو مهاجر في فرنسا، ما يمكننا من خلاله قراءة من أين تستمد الاستعلائية الفرنسية على الجزائر ديمومتها، وحالتها التي ما تعود دائماً للتفجر.
حين عُرض فيلم المخرج الجزائري الفرنسي "رشيد بوشارب" (خارجون عن القانون) عام 2010، اجتمع العديد من الجنود القدامى في الجيش الفرنسي والعديد من متعصبي اليمين القومي في مدينة كان محتجين على عرض الفيلم، متهمين الفيلم بتهمة الإساءة والتحيز ضد فرنسا! المثير للعجب أن فرنسا وهي المهزومة في حرب الجزائر لازالت تقلب آية "التاريخ يكتبه المنتصرون" وترفض دائماً الرواية الجزائرية للحرب وللتاريخ، فكم يتشابه موقف الرئيس ماكرون مع أولئك اليمينيين!
في الوقت الذي تُعد أفلام ألمانيا النازية عن اليهود في أوروبا تراثاً عنصرياً تم ردمه والإعتذار عنه بالشروط الانتصارية التي فرضتها الحلفاء على ألمانيا بما فيهم دولة فرنسا، تعد أفلام فرنسا العنصرية عن الجزائر واحتلالها، تراثاً سينمائياً كثيراً ما يتم استرجاعه والاحتفاء به، وهو أيضاً امتداد لسياسة الكيل بمكيالين الغربية تجاه العرب وتجاه إسرائيل.
الشرق العجيب
منذ بداية احتلالها للجزائر 1830م، كانت فرنسا تكرس العديد من الآلات الثقافية جنباً إلى جنب مع الآلة العسكرية لخدمة أهداف الاحتلال الاستراتيجية في التسلط على الأهالي وإخضاع البلاد، وتم تأسيس من خلال ذلك رؤية أسطورية عن الجزائر كبوابة للشرق العجيب من خلال الأدب والرسم والصور الفوتوغرافية، قبل السينما، والتي عكست صورة انبهارية استشراقية في تصوير مشاهد تعج بالأهالي الخاضعين ونساء محبوسات في بيوتهن، إلى أن جاءت السينما لتنقل صورة حية ومتحركة عن ذلك الشرق العجيب/ المتخلف.
هدفت السينما الفرنسية إلى تأصيل بعض المفاهيم والصور المغلوطة عن حقيقة الصراع الجاري على الأرض داخل الجزائر بين الأهالي والجنود الفرنسيين، فجاءت الصورة مشوهة تماماً، ولكنها راسخة بفضل تقنيات التأثير السينمائي على ذهن المشاهد.
لقد كانت البداية مع بداية السينما ذاتها، فبعد الانبهار الذي أحدثه الأخوين لوميير بعروض الفرجة في مقاهي باريس، كلفا أحد أعوانهما بالتوجه للجزائر لالتقاط صور للأهالي والمدن الجزائرية، فكانت النتيجة الأفلام الوثائقية الأولى التي حملت عناوين احتقارية ودونية.
وساهم الرعيل الأول من العسكريين في توجيه السينما لأغراض دعائية لتجسيد الأفكار التي جاؤوا من أجلها، ويؤرخ الدكتور الجزائري سليم بتقة للبداية من سنة 1905 للنشاط الفعلي للسينما الفوتوغرافية في الجزائر، حيث كانت تولت شركتي باتي وغومون إنتاج الأفلام داخل الجزائر، ومنذ هذا الوقت ظلت السينما حتى التحرير سلاحاً استعمارياً موازياً حتى إنتاج آخر فيلم عام 1962م تحت عنوان "زيتون العدالة" لجامس بلو، وقد اقتربت وقتها من إنتاج حوالي 200 من الأفلام والأشرطة الوثائقية.
أرض الميعاد السينمائية
توافد المخرجين على ذلك الشرق العجيب بصحرائه المخصبة للخيال، وكان منهجهم الإخراجي يتجه نحو الفيلم الغرائبي الذي يتخذ من الطبيعة الجزائرية ديكوراً ومجالاً فنياً للتصوير السينمائي.
وفي حقبة ما بين الحربين ظهرت سينما خاصة متطورة، وكان ذلك في أوج إمبراطورية فرنسا الاستعمارية، وبمصادفة ذلك احتفالات فرنسا بمناسبة مرور مائة عام على غزو الجزائر والمعرض الاستعماري 1931، ظهرت أفلام L'Atlantide بنسختيها، الأولى 1921م لجاك فيدر والثانية لجورج فلهم في العام 1931، وأفلام كإلى منزل المالطي الذي أخرجه هنري فسكور، والعديد من الأفلام الصامتة والناطقة على حد سواء، وأثرت أفلام كفيلم اللعبة الكبرى لجاك فيدر وبيبي لوموكو لجوليان دوفيفي وفيلم الذكرى المئوية لغزو الجزائرية LE Bled لجان رينوار في أذهان المشاهدين، إلى جانب أفلام أخرى كفيلم الطريق الامبراطوري والرجال الجدد والرمال المتحركة وروح البلد، وقد حققت تلك الأفلام الاستعمارية إنتاج متخيل جمعي فرنسي عن الشرق الساحر.
ولنتذكر أن تلك الأفلام كانت تستعمل الجزائر كديكور وخلفية للأحداث، لقد كانت صورة رسمتها السينما الاستعمارية للبيئة الجزائرية بمثابة لوحة فلكلورية منمطة، فالسينمائيون لم يثر انتباههم في الجزائر غير شمسها وهوائها وصحرائها وتضاريسها الخلابة، وكأنها مجتمع بدون حياة اجتماعية، فلا تجد إنساناً جزائرياً مسحوقاً مطروداً من أرضه، لا فقر، ولا انتفاضة، بل كان كل شئ هادئاً على الجبهة الجزائرية، وكم كان هذا ملهماً لجيلاً من المخرجين الصهاينة الذين أنتجوا أفلامهم الأولى في تغييب كامل للمجتمع العربي في فلسطين.
الجزائري يحدق إلى الكاميرا
لقد جعلت السينما الاستعمارية من سكان المستعمرات في شمال أفريقيا بشر فاقدين للغيرية الطبيعية لدخول الحياة الأوروبية، وقد جعلوهم أشخاصاً بُكم وكومبارسات يظهرون في الحالات العجائبية في أفلام كأفلام المخرج برنار ريمون وروسيل هنري وليون ماثيو، فهم أشخاص فاقدي الهوية والاستقلال، فقد كانت تحديقة الجزائري للكاميرا مجرد تحديقة استغرابية كما تراها السينما الفرنسية، تحديقة استغرابية كتلك التي تعطيها الحيوانات إذا رأت الكاميرا.
ولقد غاب عن السينما الفرنسية في الجزائر بالطبع مواضيع عن علاقة الجزائري مع السلطة الفرنسية، ويكتب جول روا في هذا الصدد موضحاً: "كان العرب في الوقت نفسه يمثلون تهديداً على المدى القريب والبعيد، كسحابة عاصفة في الأفق، يمكن أن تنهمر فجأة علينا، ولم يخطر ببالي مرة واحدة أن أسأل نفسي كيف ولماذا كانوا هناك أبداً؟ كانت مشكلة بسيطة، بكل بساطة احتلوا الجزائر قبلنا. وكنا هناك لأن حكومتهم أهانت فرنسا، وانتقمنا لشرقنا، وكانت الحملة، وكنا هنا، ككل مكان يرفرف فيه العلم الفرنسي، وللوهلة الأولى بدوا مثل البشر ولكنهم يختلفون كثيراً عنا، لا يشربون ما نشرب، ولا يأكلون ما نأكل، لا يتحدثون نفس اللغة، لا يعبدون الإله الذي نعبد".
كان هذا التقديم للجزائري يتعارض مع توصيف الشخصية الفرنسية التي كانت حاضرة بقوة في قلب الأحداث السينمائية، وكان الجزائري في بيئة تتميز بالجمود المطلق على عكس الأوروبي الحاضر في المدينة التاريخية المتحضرة، لقد كان إهمال الأهالي يكاد يكون مطلقاً، وإذا تطرقت إليه الكاميرا ففي قالب منمط للقفز فوق الواقع الفعلي الذي يحكم علاقته مع المستعمر، وغالباً تكون نظرة سخرية واستهزاء، كفيلم المسلم المضحك الذي أنتج عام 1937 وفيلم علي يأكل في الزيت ويبين مضمون الفيلمين من عنوانهما.
ونجد صورة أخرى استهزائية للجزائري في فيلمي اليتيم 1920م حيث يظهر الجزائري في الفيلم كمرابي قُدم من خلال صورة كاريكاتورية شوهته، وهي نفس الصورة التي تتكرر في فيلم "طرطران دي طرسكان" كشخص غريب ملبسه ومخادع كالبهلوان.
وهكذا صورت السينما الاستعمارية الجزائري بصفته جزءًا بسيطًا من الديكور المؤلف من المناظر الغرائبية التي تقدم لتسلية الجمهور الأوروبي كشيوخ القبائل الذين يقودون الغزوان بنظراتهم الحادة، والوجوه الملتحقة عبر الظلال، والطرقات الضيقة، والقوافل والنخيل.
باقون للأبد
وصل الاستعمار الفرنسي إلى حالة من الرسوخ في الجزائر والشعور بأنهم باقون هناك إلى الأبد، ونقلت تلك الحالة إلى السينما بطبيعة الحال، وقد برزت أفلام تجسد هذا التشكل الجديد كفيلم "صراتي المرعب" للمخرج أندري هيغون عام 1937م وقد صورت شخصية صراتي الشخصية التي صنعتها التشكيلة الاستعمارية التي تعكس كياناً وذاتاً منفصلين عما يحيط بهما، الأمر الذي أنتج أيديولوجية قائمة على العنصرية والقوة.
كانت شخصية صراتي تحتقر الأهالي في المستعمرة، ولا ترتاح نفسياً تجاههم، ونقلت أيضاً صورة عن المستعمرة التي تحوي الثروة والحب والحياة والسعيدة والمستقبل المضمون، إلى جانب قيامها على العنف والقوة والإخضاع.
لقد ظهرت الجزائر في تلك الحقبة السينمائية كمثال واقعي عن أرض بلا تاريخ وثقافة وسكان قدامى، يمكن إخضاعها أيديولوجياً كمكان يهب نفسه للمؤسسة الاستعمارية، وكمكان قابل للترويض والتمدين، وهكذا بدا وكأن فرنسا صاحبت مهمة حضارية تساعد شعبا محروما وفقيرا ومتخلفا.