قبل حوالي أسبوع وصل إلى لبنان وفد من جامعة المصطفى من مدينة قم الإيرانية. وجامعة المصطفى مختصة بتدريس العلوم الدينية، لكنها تجمع في مناهجها وأساليبها العلمية بين الأسلوب التقليدي في التدريس والمواد الدينية التقليدية التي تدرس في المدارس والحوزات الدينية، وبين الأساليب العلمية الحديثة والمواد الجديدة التي أضيفت إلى العلوم الدينية التقليدية، ومنها العلوم التربوية وعلم النفس والعلوم الاجتماعية ومناهج البحث العلمي وعلم الكلام والفلسفة والعرفان، وغير ذلك من العلوم الحديثة، كما أنها تعمل لمقاربة التحديات الجديدة التي تواجه طلبة العلوم الدينية وعلماء الدين، وكيفية الوصول إلى عقول وقلوب الشباب والأجيال الجديدة في ظل
التطورات التكنولوجية المتسارعة وانتشار الذكاء الاصطناعي، وغير ذلك من التحديات العلمية والاجتماعية.
وخلال جولات الوفد الذي ترأسه رئيس الجامعة الدكتور العلامة علي عباسي على الجامعات اللبنانية ومراكز الأبحاث والدراسات، ولقاءاته مع العلماء والمفكرين من مختلف الاتجاهات الفكرية والدينية، كان أحد أهم الموضوعات التي أثير النقاش حولها: أين هو المشروع الإسلامي الحضاري اليوم في مواجهة المشروع الغربي؟ وكيف يمكن للجامعات والحوزات الدينية الإسلامية مقاربة التحديات المختلفة في عالم اليوم؟ وهل هناك إمكانية لبلورة مشروع حضاري إسلامي إنساني مشترك مع بقية المهتمين من أتباع الأديان الأخرى لمواجهة الأزمة التي يعاني منها العالم اليوم؛ من انتشار الإلحاد والعقل المادي والصراعات التي يشهدها العالم وانتشار التطرف والعنف والأزمات
الإنسانية المختلفة؟
هل هناك إمكانية لبلورة مشروع حضاري إسلامي إنساني مشترك مع بقية المهتمين من أتباع الأديان الأخرى لمواجهة الأزمة التي يعاني منها العالم اليوم؛ من انتشار الإلحاد والعقل المادي والصراعات التي يشهدها العالم وانتشار التطرف والعنف والأزمات الإنسانية المختلفة؟
وخلال هذه اللقاءات عرض الوفد لتجربة الجمهورية الإسلامية في إيران لتطوير العلوم، ولتجربة التعاون بين الحوزات الدينية والجامعة وللمشروع الذي يطرحه قائد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي بعنوان: الخطوة الثانية، والذي يدعو لقيام مشروع حضاري إسلامي يقدّم للعالم اليوم، ومن أجل الإجابة عن الأسئلة المختلفة التي تواجهها الشعوب والحضارات المختلفة اليوم.
ومع أهمية ما طرحه وفد جامعة المصطفى من أفكار ومعلومات حول تجربة الجمهورية الإسلامية، ومع أهمية النقاشات التي حصلت بين الوفد والعلماء والمفكرين من مختلف الاتجاهات، فإن المشروع الحضاري المقبل سواء كان منطلقا من التجربة الإسلامية أو يحمل أبعادا إسلامية أو مشرقية كما يطرح بعض المفكرين، أو مشروعا إنسانيا عالميا يمكن أن يساهم فيه مفكرون وعلماء من مختلف الاتجاهات الدينية والفكرية، لا يمكن أن تنتجه دولة لوحدها أو مؤسسة فكرية في دولة معينة أو يكون حصيلة تجربة علمية أو فكرية من قبل عالم أو مفكر لوحده.
نحن اليوم في العالم نواجه أزمات متعددة ومركبة، وهناك مخاطر كبيرة يواجهها الكون، وقد تحدث العديد من العلماء والمفكرين عن هذه الأزمات والمخاطر التي يواجهها العالم وإنسان اليوم، سواء كانت أزمات اقتصادية أو معيشية أو اجتماعية أو صحية، أو أزمات فكرية ناتجة عن انتشار العنصرية والتطرف والعنف أو بسبب الصراعات والحروب، وانتشار اللاجئين في العالم والهجرات من الجنوب إلى الشمال أو من الشرق إلى الغرب، وصولا لتحديات التكنولوجيا والذكاء الالكتروني والخوف الكبير من استخدام هذه العلوم لتدمير الإنسان بدل خدمته وتأمين سعادته.
للأسف لم يتبلور المشروع الحضاري الإسلامي أو الإنساني بشكل واضح، وأن الصراعات والأزمات التي شهدها العالم العربي والإسلامي خلال السنوات العشر الأخيرة قد أدت إلى انتشار القطيعة بين العديد من الحاضرات العربية والإسلامية
والعالم العربي والإسلامي اليوم هو إحدى الساحات الأساسية التي تشهد المزيد من الحروب والصراعات، طبعا هناك مخاوف اليوم من تداعيات أزمة أوكرانيا وانتقال الحروب إلى أوروبا، إضافة للخوف من عودة الحرب البادرة بين أمريكا وحلفائها من جهة والصين وروسيا وحلفائهما من جهة أخرى، لكن يبقى العالم العربي والإسلامي أكثر ساحة تشهد الحروب والصراعات، وهناك مخاوف جدية من تعرضها مستقبلا للمزيد من الضغوط والصراعات والمتنوعة. ولذلك فإن مسؤولية العلماء العرب والمسلمين اليوم البحث بشكل معمق عن آفاق المشروع الحضاري الإسلامي أو الإنساني، وهذا يتطلب حوارا معمقا على مستوى العلماء ومراكز الدراسات والأبحاث وكل المؤسسات الدينية في العالم العربي والإسلامي.
لقد شهدنا في آخر عشر سنوات مؤشرات مهمة على تطور الفكر الإسلامي، وأطلقت عشرات الوثائق والرسائل والمشاريع الفكرية التي تحاول مواكبة العصر وتقديم الأجوبة عن الأسئلة الجديدة والبحث عن معنى جديد لوجود الإنسان والأديان. لكن للأسف لم يتبلور المشروع الحضاري الإسلامي أو الإنساني بشكل واضح، وأن الصراعات والأزمات التي شهدها العالم العربي والإسلامي خلال السنوات العشر الأخيرة قد أدت إلى انتشار القطيعة بين العديد من الحاضرات العربية والإسلامية. ولقد جرت محاولة من قبل بعض الدول والعلماء لعقد قمة إسلامية علمية وحضارية في إندونيسيا قبل عدة سنوات، لكن هذه التجربة لم تستكمل.
رغم كل التطور العلمي والاقتصادي والتكنولوجي الذي يشهده العالم اليوم فهو يعاني من الأزمات والتداعيات السلبية والحروب والصراعات، وقد يكون العرب والمسلمون أولى من غيرهم في المساهمة في إنقاذ هذا العالم من ويلاته ونكباته بدل الغرق في الصراعات والحروب المذهبية والتاريخية والسياسية
وقد تكون الأوضاع السياسية التي يشهدها العالم اليوم فرصة مناسبة لإعادة إحياء الحوار والتواصل بين كل الحاضرات والمدن الإسلامية، من مراكش وتونس إلى القاهرة والخرطوم والرياض وبغداد وبيروت وإسطنبول، وصولا إلى طهران وقم والنجف وكراتشي وكوالالمبور وغيرها من العواصم العربية والإسلامية. فهل ينتهز العالم العربي والإسلامي مرحلة ما بعد الاتفاق على الملف النووي الإيراني (في ظل المعطيات أن الاتفاق أصبح وشيكا)، وعودة الحوار والتواصل بين تركيا وعدد من الدول العربية، والحوار بين إيران والسعودية ودول أخرى، ونستفيد من كل ذلك لتعزيز الحوار الفكري والحضاري، ونبحث جميعا عن المشروع الحضاري الإسلامي أو الإنساني، أو الكنز المفقود في عالم اليوم.
رغم كل التطور العلمي والاقتصادي والتكنولوجي الذي يشهده العالم اليوم فهو يعاني من الأزمات والتداعيات السلبية والحروب والصراعات، وقد يكون العرب والمسلمون أولى من غيرهم في المساهمة في إنقاذ هذا العالم من ويلاته ونكباته بدل الغرق في الصراعات والحروب المذهبية والتاريخية والسياسية.
twitter.com/KassirKassem