أصدرتُ منذ سنوات تقارب العشرين عاما كتابا حول مصر ومنازعات
التحكيم الدولي، وحذرت فيه من أن التعويضات نتيجة القضايا الخاسرة في التحكيم تتطلب اهتماما خاصا من الحكومة المصرية. واليوم اتسع الخرق على الراتق، فلم تنتبه الحكومة المصرية حتى الآن إلى هذة المأساة ولذلك أعمل حثيثا على إصدار كتاب آخر ربما في منتصف هذا العام إن شاء الله، حيث نتناول هذا الموضوع بعد تزايد عدد القضايا وتزايدت معه أرقام التعويضات الخيالية.
فعند صدور الكتاب الأول عام 2004 بعنوان مصر ومنازعات التحكيم الدولي كانت القضايا المرفوعة على مصر وصدرت فيها أحكام أربع فقط وكان واضحا من تحليل هذه الأحكام ما يلي:
1- أن التعويضات المطلوبة في ذلك الوقت كانت تشكل نزيفا لمصر، وكان لا بد أن تتنبه لها الحكومة وتعالج أسباب خسارة مصر لهذه التحكيمات.
2- أن السبب المباشر في هذه القضايا كان عدم جدية الوزراء في نتائج انتهاكهم للعقود مع المستثمرين الأجانب، رغم أن المستشار القانوني للوزير من مجلس الدولة قدم لهم مذكرات تحذر من نتائج انتهاك العقد المباشر بقرار وزاري. وقلت في مقدمة هذا الكتاب إن علاج هذه الثغرة بسيط، وهو أن الوزير الذي يتجاهل النصيحة القانونية ويقدم بقرار منه على انتهاك العقد الدولي فإنه يقوم بعمل متعمد، وتترتب على ذلك المسؤولية القانونية على الوزير شخصيا. ولو تم إقرار هذا المبدأ لأغلقنا باب الأهمال المكلف من جانب الوزراء ولا تردد الوزير؛ عندما يعرف أنه سيدفع التعويضات من ماله الخاص.
3- السبب الآخر في خسارة مصر في هذه التحكيمات هو عدم جدية المفاوض المصري عند إبرام عشرات الاتفاقيات الثنائية الخاصة بتشجيع وحماية
الاستثمار مع الدول الأخرى.
4- أن القضية عندما ترفع من جانب المستثمر فإنه يشترط موافقة وزارتي الاقتصاد والخارجية في حكومته، مما يؤدى إلى تعكير العلاقات السياسية بين مصر وهذه الدول بسبب خطأ الحكومة المصرية. كما أن تراكم هذه التصرفات يلصق صفة في الحكومة المصرية بأنها لا تكترث بانتهاك عقودها مع المستثمر الأجنبي، مما أدى إلى النتيجة الخامسة.
هذا النزيف اتسع ليلتهم الميزانية العامة خلال السنوات القليلة الأخيرة، حيث تضاعف عدة مرات عدد القضايا بحيث وصلت الآن في نهاية 2021 إلى 41 قضية مرفوعة ضد مصر، وبعضها صدرت فيه أحكام بالتعويض بالمليارات
5- أن المستثمر الأجنبي تشجع في القدوم إلى مصر لا لكي يستثمر وإنما لكي يستغل خطأ الحكومة المصرية والحصول بسهولة على التعويضات، ولذلك فإن المستثمر الأجنبي لا يهمه تطوير تشريعات الاستثمار الداخلية وإنما يركز على أخطاء الحكومة المصرية المتكررة في العقود. وربما فهم الوزير المصري خطأ أنه لا فرق بين العقد الإداري وعقود الدولة، ولذلك نصحتُ بالتركيز على تدريب كوادر هيئة قضايا الدولة العاملة في مجال التحكيم الدولي تدريبا خاصا لرفع كفاءتهم، وكذلك تشكيل فريق من المتخصصين المخلصين الذين يتدخلون فور ظهور الأزمة بين المستثمر الأجنبي والحكومة لتسوية النزاع بالطرق الودية، بدلا من تعريض سمعة مصر للخطر واستمرار نزيف الأموال بسبب هذه التعويضات.
وإذا كان النزيف متواضعا عند صدور الكتاب الأول، فإن هذا النزيف اتسع ليلتهم الميزانية العامة خلال السنوات القليلة الأخيرة، حيث تضاعف عدة مرات عدد القضايا بحيث وصلت الآن في نهاية 2021 إلى 41 قضية مرفوعة ضد مصر، وبعضها صدرت فيه أحكام بالتعويض بالمليارات. ولذلك سوف نخصص هذا الكتاب لمعالجة هذه القضايا وإلقاء الضوء على تطور موقف مصر من هذه الثغرات وطرق وقف هذا النزيف.
والطريف أن أحد أعضاء اللجنة التي شكلتها الحكومة لتقييم موقف مصر الدولي من قضايا الاستثمار قد أصدر تقريرا مليئا بالمغالطات التي تعكس تماما وجهة نظر الحكومة المصرية؛ التي لا تريد أن تحتكم إلى تقرير محايد فيما يتعلق بهذه الكارثة بعد أن بلغت مبالغ التعويض أكثر من 30 مليار دولار.
أحد أعضاء اللجنة التي شكلتها الحكومة لتقييم موقف مصر الدولي من قضايا الاستثمار قد أصدر تقريرا مليئا بالمغالطات التي تعكس تماما وجهة نظر الحكومة المصرية؛ التي لا تريد أن تحتكم إلى تقرير محايد فيما يتعلق بهذه الكارثة بعد أن بلغت مبالغ التعويض أكثر من 30 مليار دولار
أما هذه المغالطات فنلخصها في ما يلي وسوف نتأكد منها من خلال المعالجة الموضوعية لهذا الكتاب، ونخص بالذكر ملاحظتين؛ الملاحظة الأولى هي أن التقرير يشير إلى أن الكارثة بدأت مع ثورة 25 يناير 2011، فكأن هذه الثورة هي التي شجعت إثيوبيا على بناء سد النهضة، وهي التي جلبت الكوارث على مصر، متجاهلا أن المجلس العسكري لم يتخل يوما عن السلطة. وسوف يكون هناك تحليل أكثر تفصيلا في هذا الموضوع عندما يحين الوقت.
الملاحظة الثانية هي أن التقرير يشير إلى أن معظم الأحكام كان لصالح مصر، وسوف نفحص هذا الافتراض. ثم إن التقرير يبدو أنه يخفف من وقع الكارثة فأشار إلى مبلغ التعويض الإجمالي الذي تكبدته مصر في هذه القضايا بأقل من الواقع. لكن هذا التقرير كان صادقا في نقطة واحدة، وهي أن مركز أكسيد ليس منحازا ضد الدول النامية، وهذا هو رأينا منذ البداية.
وقد تضمن التقرير تحليلا كميا لهذه القضايا، ومحاكم التحكيم التي شكلها المركز وجنسيات المحكمين ورؤساء محاكم التحكيم وجنسية المحكم الذي تعينه مصر عادة. ويتضح من هذه الأرقام أن المحكم الأوروبي لا يزال في المقدمة، كما أن مصر لم تستعن في أي قضية بأي محكم مصري أو عربي.
هذه القضايا تشكل نزيفا للمال العام في مصر ونقطة ضعف بالنسبة لسمعة الدولة المصرية، ولذلك يجب على وزير العدل أن يشكل لجنة من المتخصصين المخلصين لمصر في التحكيم الدولي، وأن يعهد إلى هذه اللجنة بإدارة منازعات التحكيم حتى قبل أن تبدأ
ونكرر مرة أخرى توصيتنا للحكومة المصرية بأن هذه القضايا تشكل نزيفا للمال العام في مصر ونقطة ضعف بالنسبة لسمعة الدولة المصرية، ولذلك يجب على وزير العدل أن يشكل لجنة من المتخصصين المخلصين لمصر في التحكيم الدولي، وأن يعهد إلى هذه اللجنة بإدارة منازعات التحكيم حتى قبل أن تبدأ. ولذلك خسرت مصر سمعتها، بالإضافة إلى تراجع المستثمر الأجنبي في مصر، وأن تطوير تشريعات الاستثمار لا يجدي نفعا إذا كان هدف الحكومة هو تشجيع الاستثمار، ولكنها لا تنظر إلى أسباب المأساة التي ذكرناها، حيث يقول التقرير إن الحكومة تداركت واحدا منها منذ عام 2014. وفي نفس الوقت يناقض التقرير نفسه عندما يلحظ تزايد عدد القضايا المرفوعة ضد مصر، ونفس الثغرات التي أدت إلى هذا النزيف المتواضع منذ سنوات والعنيف في السنوات الأخيرة.
ونأمل أن تكون هذه المعالجة نافعة للحكومة المصرية، وأن تدرس المقترحات الواردة فيها إذا كان هدفها الحقيقي هو وقف نزيف التعويضات التي تضر مصر في سمعتها وفي ميزانيتها، وترهق المواطن المصري بالضرائب؛ سدا للعجز في الميزانية الذي تجب مراجعته بأمانة ودقة.