الدين في اللغة يعني: الطاعة والانقياد والخضوع لله تعالى ومنه قوله تعالى: "يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَق"، أي حسابهم.
الدين اصطلاحا وشرعا: ما يتديّن به الرّجُل ويعتقده، فيُقال: دان بالإسلام ديِناً وتديّن به؛ أي اتّخذه ديناً وتعبّد به، والدين يعني الملّة، والانقياد والطاعة والاستسلام للشّريعة، لِقولهِ تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام"، وقوله تعالى: "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين".
وإكراه تعني: الجبر وإرغام الشخص وحمل النفس على فعل ما لم يقتنع به ولا يرضاه، وهو بالنسبة له أمر مكروه ومذموم، وتم إرغامه على فعله عبر قوة ضغط صلبة أو ناعمة، معلنة أو غير معلنة ظاهرة أو باطنة.
وعكس الإكراه: القناعة والرضا والقبول المفضي إلى الاعتزاز والفخر بقناعته واختياره والمحفز في ذاته على تبنى اختياره وإثباته وتمكينه، والحافزية للعمل لإعلائه.
اقتضى أمر الله تعالى وسنته وحكمته أن يكون أمر الدين كله من إيمان بالله تعالى وبملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وإعلان شهادة التوحيد لله تعالى أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قناعة كاملة ورضا مطلق من الإنسان. وإن الهداية إلى الله تعالى مرهونة ومشروطة من الله تعالى بالقناعة العقلية والاختيار الطوعي عن قناعة وحب ورغبة داخلية صادقة في الهداية إلى طريق الله تعالى: "لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْد مِنَ الْغَى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ".
وذلك لعدة أسباب:
1- مقتضى احترام وتكريم الله تعالى للإنسان الذي كرمه الله تعالى وميزه عن بقية المخلوقات وأسجَدَ له الملائكة وسخر له كل ما في الكون، قال تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الإسراء: 70)ـ وسخر له ما في السموات والارض: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً" (لقمان: 20).
2- أن الله تعالى كرم الإنسان ومنحه العقل ومنحه حرية التفكير ومسؤلية
الاختيار كاملة، ولذلك يكون الإنسان مطمئنا سعيدا باختياره بنفسه وبكامل عقله وحريته واختياره، وقراراه أن يختار الله تعالى عما سواه، والسير في طريق إليه في طريق هداه.
3- أن الإنسان مطلق
الحرية في اختيار ما يريد من دين ينتسب عليه ويدين به، وهو في الآخرة مسؤول ومحاسب عن اختياره والتزامه بما اختار من دين.
4- أن الله تعالى لا يقبل إلا العبد الذي جاءه طواعية وباختياره الحر، ولذلك يفرح الله تعالى باختيار العبد لله تعالى وللهدى والسير إلى الله بقية حياته، يفرح به ويباهي به الملائكة المخلوقة للطاعة فقط ولم تُمنح حق الاختيار المخصص للإنسان فقط.
4- الإنسان مكلف برسالة ومهمة عظمى من الله تعالى في الحياة تعلي من قيمته في هذه الحياة الدنيا في الآخرة، مفادها الاستخلاف في الكون وعمارة كوكب الأرض. قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" (سورة البقرة: 30). خليفة مستأمن على كوكب الأرض وانتظام وسير الحياة واستقرار ورفاهية الحياة فيه لكل المخلوقات "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود:61)، وهي مهمة عظيمة وكبرى لا يمكن القيام بها إلا طوعا واختيار واستعدادا ومبادرة.
5- مهمة خلافة الله تعالى للإنسان في كوكب الأرض وتكليفه بعمارة الحياة، بالجانب الروحي من معتقدات ومفاهيم وقيم وشعائر، والجانب المادي من بنيان وتقنيات وتكنولوجيا الحياة المتجددة مهمة شاقة مفتوحة متعددة ومتنوعة المجالات، فتحت فضاء واسعا للتنافس والتمايز البشري، حين قال تعالى "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" (الملك: 2).
فالإنسان الذي كرمه الله تعالى ومنحه العقل فتح أمامه فضاء واسعا مطلقا للتفكير والإبداع والابتكار المتجدد لتنمية وتأهيل نفسه، وتعزيز قدرته على الفعل والإنجاز والمساهمة بأكبر قدر من الأسهم في مشروع عمارة كوكب الأرض، بما يثبت به ذاته ويعظم من قيمته الفردية المضافة، ويضمن له مكانا راقيا في الحياة الآخرة الأبدية مع صفوة البشر من الأنبياء والمرسلين والعلماء والأعلام في يوم الفصل بين عظماء الخلق وعمومهم وسفاسفهم، ومهتديهم وضاليهم.
قانون القناعة والرضا والقبول في الدين
قانون إلهي ملزم في أمر الدين الذي يعد أعظم حقيقة في الوجود كله، حيث يتوقف عليها مصير الإنسان في حياته الدنيا والآخر، مما يعني أنه قانون سار وملزم فيما عداه من كل أمور الحياة. فللإنسان مطلق الحرية في الاختيار، بداية من دينه وانتهاء في كل صغيرة وكبيرة من شؤون حياته من تعلم وعمل وزواج وسكن وأكل ونوم.. الخ.
أي أنها منهاج حياة وثقافة وهوية للمجتمعات الإنسانية عامة، وفي ذلك العديد من الدلالات المفاهيمية والتي تتبعها إجراءات سلوكية وواجبات عملية في كافة مجالات الحياة بحسبب المجال والتخصص.
وسنتناول هنا عدد ونماذج من هذه التطبيقات في مجالات حياتنا اليومية:
أولا: منهج لا إكراه في الدين في الدعوة إلى الله تعالى:
1- حرية المجتمع والمدعوين في قبول ورفض الدعوة، وحرية اختيار التدين من عدمه:
- إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيم" (البقرة).
- "وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" (النور).
- "إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ" (فاطر).
- "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ" (الكهف).
- "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر" (الكهف).
- "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء" (البقرة).
2- من دون جبروت وولاية وادعاء محافظة عليهم، ولا وكالة ولا سيطرة من الدعاة على الناس:
- "نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ۖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ" (ق).
- "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ۖ " (الأنعام).
- "وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ" (الأنعام).
- "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ" (الغاشية).
3- حيث يتوقف دور الداعية على حد البلاغ والبشارة والنذارة، والإبداع واللبتكار والتطوير في طرق وأساليب وأدوات مهارات البيان والتبليغ للناس:
- "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" (الرعد).
- ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل).
ثانيا: منهج لا إكراه في الدين في تربية الابناء
1- اعتماد منهج الإقناع العقلي للأبناء ببيان الدور الوظيفي لكل قيمة ومفهوم وشعيرة تعبدية لتعرفهم بها ونربيهم عليها. مثال فائدة الصوم والصلاة في حياتنا اليومية.
2- واجب الأباء والأمهات في تبسيط وبيان المعاني والمفاهيم للأبناء بحسب المرحلة العمرية مما يتطلب من الآباء والأمهات إضافة على ما ورثوه من آبائهم وأمهاتهم، يتطلب الأمر تعلم المزيد من مبادئ وأساليب
التربية الخاصة بكل مرحلة عمرية: الطفولة المبكرة والطفولة والصبا والمراهقة، والنوعية الخاصة بتربية البنين والخاصة بتربية البنات.
3- اعتماد منهج الحوار والمناقشة مع الأبناء وصولا إلى قناعة مشتركة وحرية كاملة للأبناء في اتخاذ قراراتهم بعيدا عن أي ضغط أو إكراه، بما سيقوي من تفكير وشخصية الأبناء مبكرا، ويجسر الفجوة بين تفكير الأبناء والوالدين، ويعزز العلاقة بينهم.
ثالثا: منهج لا إكراه في الدين في القيادة والإدارة في العمل المؤسسي
1- تعرف القيادة الإدارية على مواهب وميول الموظفين والتنسيق بين المهام الوظيفية وبين مواهب وميول الموظفين، وصولا إلى متعة العمل والحافزية الطبيعية على الأداء والإنجاز.
2- اعتماد مبدأ الحوار والنقاش بين القيادة والموظفين، وصولا إلى قناعات مشتركة تعزز من جودة بيئة العمل.
3- توسيع قاعدة المشاركة في التفكير والتطوير وصناعة القرار.
رابعا: منهج لا إكراه في الدين في الحكم والسياسة
1- احترام قيمة وكرامة الشعب وتقديس حريته في المشاركة في الرؤية والسلطة والثروة.
2- تعزيز المشاركة الشعبية والممارسة الديمقراطية في اختيار وتداول النظام الحاكم.
3- تعزيز مشاركة الشعب في السلطة بالتوسع في توزيع السلطات والموارد على الوحدات المحلية ذات المشاركة الشعبية الواسعة.
إشكاليات وأشكال الوصاية والحجر على منهج لا إكراه في الدين:
نموذج وصاية الكبير على الصغير
إكراهه على تنفيذ الأمر سواء فهمه أو بدون فهم لأن فيه مصلحته بادعاء البعض غياب وعى الصغير ومن ثم الوصاية عليه، وإكراهه على تنفيذ الصحيح الواجب فعله. والصحيح هنا هو التوسع في تعزيز وعي الصغير، ومناقشته وبناء قناعات عقلية صحيحة عنده تعزز من تفكيره ووعيه وقناعته، ومن ثم إحساسه بالرضا والنمو المبكر.
نموذج وصاية العالم على عموم الناس
يدعي بعض الدعاة غياب معرفة العموم، ومن ثم يكتفي بتعريف جمهور المدعوين بكيفية تنفيذ الأعمال الواجبة من دون بيان فلسفتها وأهميتها ودورها الوظيفي في حياة الناس.
والصحيح هنا هو واجب الدعاة في تبسيط المفاهيم للناس بقدر عقولهم وثقافتهم، مع بيان حقيقة وأهمية كل مفهوم وحكم وواجب وشعيرة، وصولا إلى القناعة العقلية التامة المحفزة على الالتزام والجود، والمحافظة على حقوق المدعوين في المعرفة والفهم.
نموذج الحاكم المستبد على الشعب
يدعي بعض الحكام المستبدين المنفردين بالسطو على حقوق الشعب في المشاركة في الرؤية والسطة والثروة؛ أن الشعب ما زال قاصرا وغير قادر على المشاركة في السلطة، ولا يعرف مصالحه السياسية والاقتصادية.. الخ، ومن ثم يجب إبعاده عن المشاركة في الحكم.
والصحيح هو أن الشعوب تعلم كل شيء خاصة المجتمعات ذات نسب التعليم العالية، كما أن تعمّد حجب المعلومات عن الشعب وحرمانه من فهم الحقيقة مستهدف من نظم الاستبداد، كذلك محاولات النظم المستبدة في نشر التفاهة، واللهو وتشتيت عقول المجتمع لمحاولة تجهيل الشعوب وإبعادها عن الحكم.
نموذج الزوج الغشيم مع زوجته
بعض الأزواج يفتقر إلى فهم حقيقة المرأة وقيمتها ومكانتها وكيفية التعامل معها واحترامها وكيفية مشاركتها في حياته، بالإضافة إلى بعض المفاهيم والمسلمات الخاطئة عن المرأة، ووسمها بأنها خلقت من ضلع أعوج وناقصة العقل والدين.. الخ، والكثير من هذه الخرافات الموروثة، بالإضافة إلى فهمه الخاطئ لمفهوم القوامة، ومن ثم يقوم بمحاولة إلغاء شخصية المرأة تماما وحرمانها من مشاركته التفكير والرأي وإجبارها وإكراهها على ما لا تحبه ولا ترضاه، مما يتسبب في الكثير من الكوارث الأخلاقية والاجتماعية.
والصحيح هو بناء العلاقة بين الزوجين على الحوار والمناقشة وبناء القناعة المشتركة التي تعزز الحب وتقوى الأسرة.
نموذج الأب الفقير تربويا مع أبنائه
وهو الذي لا يمتلك من مبادئ ووسائل وأدوات ومهارات التربية إلا ما ورثه من والديه فقط، بالإضافة إلى حبه الفطرى لأبنائه، ومسلمته أنهم صغار لا يدركون مصلحتهم ومن ثم يمارس الإكراه المستمر على أبنائه، مما يتسبب في آثار سلبية على الأبناء، وعلى تكوينهم التربوي وبناء شخصياتهم، ويترجم باتساع الفجوة وبُعد وتمرد الأبناء على الآباء مع بداية مرحلة المراهقة.
والصحيح هو تربية الأبناء من الصغر على الحوار والمناقشة، وبناء القناعة العقلية التي تعزز نموهم مبكرا ومشاركتهم الرأي.