إلى جانب الكرميلن في حديقة الكسندر أقف أمام نصب
الحرب العالمية الثانية، جنود روس يقفون بزهو يحرسون نارا موقدة لا تنطفئ تحيي ذكرى أكثر من عشرين مليون قضوا في الحرب الوطنية العظمى كما تسميها موسكو. حرب برزت فيها أسماء ووقائع، يومها صنفت كييف وأوديسا إلى جانب مدن أخرى كستالينغراد وغيرها مدنا للمجد العسكري لما أبداه جنودها المحليون من شجاعة وبسالة.
"إذا ليس ما يحصل اليوم في كييف وأوديسا وغيرها بغريب عن الروس؟"، أباغت مرافقتي الروسية انستاسيا بالسؤال، فتجيب: "لا أحد يحب الحرب خاصة مع دولة جارة هناك تاريخ وعلاقات وامتدادات معها.. لذا آمل أن تكون هناك أسباب حقيقية ومقنعة دفعت
بوتين إلى اتخاذ هذا القرار".
من الكرملين ومن ناطحة ستالين الخامسة، التي بنيت للمفارقة على يد الأسرى الألمان خلال الحرب العالمية، حيث الخارجية الروسية؛ تكرر موسكو القول علنا إن هدفها هو حيادية أوكرانيا ووقف توسع الناتو شرقا، ونزع السلاح الأوكراني، وتضيف إلى ذلك أن هذه الحرب هي "لإنهاء سيطرة القطب الواحد على العالم" أيضا.
الأهداف الأولى فكان يتوقع أن تكون سهلة المنال بالنسبة للجيش الروسي، لكن بعض المقربين من دوائر صنع القرار في موسكو يتفقون مع الرواية التي تتبنى سوء التقدير الاستخباراتي الروسي فيما يخص القدرات والأوضاع في أوكرانيا. أما "إنهاء سيطرة القطب الواحد على العالم" فأمر آخر يدفع للتساؤل عن رغبة روسيا بإحياء سطوة الاتحاد السوفييتي
أما الأهداف الأولى فكان يتوقع أن تكون سهلة المنال بالنسبة للجيش الروسي، لكن بعض المقربين من دوائر صنع القرار في موسكو يتفقون مع الرواية التي تتبنى سوء التقدير الاستخباراتي الروسي فيما يخص القدرات والأوضاع في أوكرانيا. أما "إنهاء سيطرة القطب الواحد على العالم" فأمر آخر يدفع للتساؤل عن رغبة
روسيا بإحياء سطوة الاتحاد السوفييتي ربما، أو في أحسن الأحوال كما يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه؛ دور أكبر لمنظمات وقوی دولية وإقليمية صاعدة كـ"بريكس" ومنظمة شنغهاي وغيرهما.
أهداف وغايات قد تبدو مشروعة وفق محدد "الأمن القومي الروسي" وتدعو للتفاؤل بمزيد من التعددية والتشاركية على المستوى الدولي، لكنها برأي كثيرين لا تبرر "الوسيلة" التي لجأ إليها الرئيس الروسي بالحرب على أوكرانيا، والتي يبررها بالقول إنه لو لم تبدأ روسيا الحرب لكانت القضية مسألة وقت بالنسبة للطرف الآخر. هي العقلية الروسية التي تستحضر المثل الروسي القائل: "يمسك القيصر الحرب بيده، ويمسك الله السلام".
حرب بدأت بتبعاتها تدخل تفاصيل الحياة اليومية للروس. ليس بعيدا عن مقر جهاز المخابرات الروسي، بدأت قاعة "بولشوي" الشهيرة للبالية بالتحضير لحفلات سيعود ريعها للاجئين من إقليم الدونباس الأوكراني، والذي اعترفت موسكو باستقلاله في جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، رغم أن الفن الأشهر والأكثر تأثيرا في روسيا كان قد سجل موقفا مهما في بداية الحرب من خلال راقصة الباليه الروسية الشهيرة، أولغا سميرنوف، التي غادرت موسكو رفضا للحرب، ولم تعلن انضمامها إلى فريق البالية الوطني الهولندي فحسب، بل أجرت عرضا مع زميتها الأوكرانية بريما غورسكايا على خشبة مسرح "سان كارلو" في نابولي، خصصت عائداته للصليب الأحمر وتأييد السلام في أوكرانيا.
أهداف وغايات قد تبدو مشروعة وفق محدد "الأمن القومي الروسي" وتدعو للتفاؤل بمزيد من التعددية والتشاركية على المستوى الدولي، لكنها برأي كثيرين لا تبرر "الوسيلة" التي لجأ إليها الرئيس الروسي بالحرب على أوكرانيا
في إحدى قاعات متحف تريتياكوف الشهير، وقفتُ بحيرة أمام أعمال فنية عظيمة تستحضر الجمال، ولوحات تستلهم السلام من المسيح والطبيعة، لكن لفت نظري لوحات تمجد القادة، بل إن الذاكرة الفنية الروسية وثقت الخراب أو ما تسميه النصر، كلوحة المباني المدمرة في تترستان والمسماة "الاحتفال بالنصر" وغيرها.
عبر التاريخ، بين السلطة ومن يمجدونها ومن هم ضدها، رسمت ملامح العلاقة بين الطرفين، حتى الآن تم اعتقال أكثر من 15 ألف شخص بحسب "OVD-Info" الروسية المعارضة، بسبب تحركاتهم المناهضة للحرب خاصة بعد قانون وقعه بوتين في الأيام الأولى لبدء العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرنيا، يجرم نشر "أخبار كاذبة" عن الجيش الروسي بعقوبات تصل إلى السجن لمدة تتراوح من 5 إلى 10 سنوات وغرامات مالية باهظة، فما بالك بالتظاهر والاعتصام.
تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا مرشحة لمزيد من التصاعد، حتى الآن أكثر من 250 علامة تجارية عالمية أغلقت أبواب محالها، وانسحبت من السوق الروسية، ما تسبب بتراجع في عائدات المجمعات التجارية بنسبة نحو عشرين في المئة وتراجع في أعداد الزبائن بنسبة عشرة في المئة على الأقل، وهناك أكثر من مئتي ألف في موسكو مهددين بالبطالة.
ضبط أسعار صرف العملات الاجنبية خاصة الدولار واليورو أمام الروبل الروسي ليس كافيا برأي الخبراء، فالاقتصاد الروسي يسجل أعلى تضخم له منذ عشرين عاما بوصوله إلى 17.62 في المئة.
ما يهم المواطنين الروس، بعيدا عن الهواجس الأمنية وغيرها لمسؤولي بلادهم، الأوضاع الاقتصادية والمعيشية
ما يهم المواطنين الروس، بعيدا عن الهواجس الأمنية وغيرها لمسؤولي بلادهم، الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.. اليوم يواجهون صعوبات في الحوالات المصرفية من وإلى الخارج، ومشكلات في استخدام بطاقاتهم المصرفية الصادرة عن بنوك روسية خارج روسيا، وهذا ما سيدركونه بشكل أكبر عندما يريد ملايين الروس -كما كل عام- قضاء اجازاتهم على ضفاف المياه، الدافئة كجنوب أوروبا أو تركيا أو الشرق الأوسط.
أما الحكومة فتدرك تماما ماذا يعني أن تصبح روسيا الدولة الأكثر عرضة للعقوبات في العالم بأكثر من 6500 عقوبة اقتصادية. يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "إن للعقوبات تبعات أكبر على المديين المتوسط والبعيد"، وإن كان يضيف أن هذه التبعات ستضرب الاقتصاد العالمي أيضا لترابطه في قطاعات مختلفة.
العقوبات ضد روسيا، إلى جانب دعم الجيش الأوكراني، تبدو غربيا الخيار الأمثل في وجه الحرب. يقول نابليون بونابرت: "قوام الحرب ثلاث: المال والمال والمال"، لكن ماذا لو لم ينفع ذلك، كما حصل في تجارب كثيرة من إيران إلى كوريا الشمالية إلى فنزويلا وغيرها..؟
twitter.com/hazem_kallass