هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الخميس الماضي المملكة العربية السعودية للمرة الأولى منذ حوالي 5 سنوات عندما كانت زيارته حينها تهدف إلى نزع فتيل الأزمة الخليجية التي أدّت إلى استقطاب حاد في المنطقة وإلى تضرّر العلاقات البينية لعدد كبير من الدول بما في ذلك علاقة تركيا بكل من السعودية والإمارات والبحرين. لم تكن العلاقات التركية ـ السعودية سهلة في أي وقت من الأوقات، لكن بالرغم من الخلافات التي عصفت بها، فقد حافظ الطرفان على التواصل المطلوب للتنسيق في بعض الملفات المشتركة.
لكن اغتيال خاشقي كان الضربة الأقوى للعلاقات الثنائية. وبالرغم من أنّ قطار تطبيع العلاقات الإقليمية بين عدد كبير من الدول كان قد انطلق بعد خسارة ترامب للإنتخابات الرئاسية في أمريكا والتوصّل إلى إتفاق العلا الذي حل الأزمة الخليجية، إلاّ أنّ العلاقات التركية ـ السعودية لم تشهد الإنفراجة المنتظرة. خلال العام الماضي، عقد عدد من مسؤولي البلدين اجتماعات ثنائية بما في ذلك وزيرا خارجية البلدين، وخرجت تصريحات إيجابية لكنّ ذلك لم ينعكس بالشكل المطلوب على العلاقات بين الطرفين، إذ أنّ المملكة لم ترفع الحظر غير المعلن ضد الصادرات التركية، كما أنّه لم يجر تطبيع كامل للعلاقات.
في آذار (مارس) الماضي، طلبت السعودية من تركيا إحالة قضية خاشقجي إلى المحكمة السعودية، وقد بدا أنّ ذلك مقدّمة للتطبيع المطلوب. فبعد القيام بهذه الخطوة، تأكدّت زيارة أردوغان إلى المملكة. في باب الدوافع، يشير كثير من المتابعين فضلاً عن وسائل الإعلام إلى عنصر واحد وهو العامل الاقتصادي. الاقتصاد التركي يعاني من مشاكل، والحكومة بحاجة إلى إصلاح الوضع قبيل الإنتخابات الصعبة المقبلة، وذلك هي تتطلع إلى الاستفادة من الأموال السعودية لدعم الاقتصاد. هكذا تقول الرواية المسلّم بها.
صحيح أنّ العنصر الاقتصادي مهم، ولا شك أنّ تركيا تسعى إلى زياة حجم التبادل التجاري مع السعودية وإلى استقطاب الاستثمارات السعودية، إلاّ أنّ العنصر الاقتصادي لم يكن في يوم من الأيام الرافعة الحقيقية للعلاقات الثنائية أو الدفاع الأساسي لها حتى عندما كانت العلاقات بين الدولتين في أوجها في العام 2015 ـ 2016. الحقائق الرقمية المتعلقة بحجم التبادل التجاري وحجم الاستثمار الخارجي تشير إلى أنّ حجم التجارة مع السعودية متواضع جداً قياساً بقدرات البلدين لدرجة أنّ حجم التبادل التجاري بين تركيا ودولة مثل مصر تجاوز حجم لتجارة بين تركيا والسعودية حتى عندما كانت العلاقات التركية ـ المصرية متوترة في فترة ما قبل إنتشار وباء كوفيد19.
بهذا المعنى، فإنّ حجم التجارة مع السعودية يكاد يكون معدوماً بالمقارنة مع حجم التجارة التركية الكليّة. نفس الأمر ينطبق على الاستثمارات السعودية المباشرة، إذ أنّها أقل بكثير من مثيلتها الإماراتية على سبيل المثال، وهي تكاد لا تذكر بالمقارنة مع استثمارات دول أوروبية مثل هولندا على سبيل المثال. القطاع الوحيد الذي كان من الممكن أن يقدّم شيئاً هو قطاع الإنشاءات والمقاولات، لكن حتى في هذا المجال فقد فقدت السعودية مركزها في سوق الشركات التركية منذ سنوات طويلة وأصبحت هذه الشركات تعمل بحصة أكبر بكثير من تلك التي كانت تعمل بها في السعودية في دول مثل روسيا وليبيا الإمارات والعراق...الخ.
قد يكون التطبيع الحالي مجرّد إستراحة على مسار الأحداث المنتظرة. لذلك، من الأفضل التريّث في قراءة المشهد وعدم الإندفاع بشكل متطرّف في تفسير التطورات سواءاً تجاه الموقف التركي أو تجاه الموقف السعودي، بانتظار المزيد من المعطيات والاختبارات لمسار التطبيع الذي انطلق.
على أي حال، لا شك أنّ تطبيع العلاقات مع السعودية هو أمر في غاية الاهميّة للطرفين وللمنطقة في هذ التوقيت بالتحديد. البلدان يمتلكان قدرات ضخمة تمكّنهما من تحقيق التكامل إذا ما أحسنا استخدامها او حتى توظيفها في سبيل تحقيق الأهداف التي تمثّل مصلحة مشتركة. علاوةً على ذلك، فإنّ تطبيع العلاقات بين الطرفين سيفيد بالتأكيد أطرافاً ثالثة كدولة قطر على سبيل المثال، كما أنّه سيحد من الإستقطابات المحتملة بشكل أكبر، وقد يسرّع من تطبيع العلاقات في حالات أخرى مثل الحالة المصرية ـ التركية.
هناك من هو سعيد وهناك من هو شامت وهناك من هو منتقد. لكن بغض النظر عن هذه الاتجاهات، السؤال الذي يطرح نفسه، هل التطبيع التركي ـ السعودي قائم حالياً على أسس راسخة؟ وإذا كان الجواب نعم، فهل ستكون ثابتة فيما لو حصلت تغيّرات إقليمية أو دولية خلال عام او عامين؟ من الصعب الجزم في هذا المجال. لكن ما أراه أنّه لا يزال هناك أشواط طويلة قبل القول بأنّ التطبيع بين الطرفين قام على أسس راسخة. سياسة المملكة العربية السعودية الخارجية لا تزال غير واضحة، كما أنّ القرار فيها متقلّب بشكل خطير بغض النظر عن التقلب في المعطيات الإقليمية والدولية، وهو غير مستقر عند استراتيجية واضحة المعالم، ومعظم الأهداف المعلنة تبدو أهدافاً حالمة وغير واقعية.
مثل هذه المعطيات لا ترسل مؤشرات مطمئنة على المدى البعيد، وإذا ثبت أنّها صحيحة، فقد يكون التطبيع الحالي مجرّد استراحة على مسار الأحداث المنتظرة. لذلك، من الأفضل التريّث في قراءة المشهد وعدم الاندفاع بشكل متطرّف في تفسير التطورات سواءً تجاه الموقف التركي أو تجاه الموقف السعودي، بانتظار المزيد من المعطيات والاختبارات لمسار التطبيع الذي انطلق.