هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
دعت السلطة في مصر إلى حوار سياسي، ولم تظهر أي إشارات على وجود حوار حقيقي، باستثناء بيانات قليلة نشرتها فئات معارضة لوضع شروط للحوار المزعوم، إضافة إلى أخبار متناثرة للإفراج عن بضعة سجناء من آلاف خلف القضبان، بما يوضح أن "الانفراجة" التي يأمل فيها الناس مجرد سراب، أو حلقة في مسلسل الخداع الذي بدأ بتعبيرات من نوع "نور عينينا" و"أد الدنيا" و"تنقطع إيدينا لو اتمدت عليكم".. إلخ.
على كل حال، هذا المقال الذي يجمع بين الأدب والسياسة، ويستخدم أسلوبا رمزيا ولغة مهذبة، ومع ذلك تم منعه من النشر خوفا من رد فعل السلطة التي تتحدث عن حق المعارضة في التعبير، وها أنا أنشره خارج مصر بعد يأسي من وجود جهة تقبل بمغامرة نشره في "بلد الحوار".
هذا نص "المقال/ الرسالة"، لعله يصل إلى وجهته برغم معوقات التعبير والحوار في مصر:
فخامة الرئيس:
أكتب إليك هذه الرسالة بحب، دون أي كراهية أو غلّ، برغم أنك الرجل الذي تسبب في إيذائي أكثر من أي شخص آخر في هذا العالم.
ترددت في الكتابة إليك، خشية أن تكون رسالتي مشوشة وضعيفة، وخشية ألا تصل كلماتي إليك واضحة متماسكة، فأنا لست سوى منفيّ مشوش خارج وطني، بعيد عما أحب وأرغب، لكنني برغم كل الأحوال مصمم ألا أكون ضحية.
أعتقد أنك معذب جداً يا فخامة الرئيس، فالإنسان المقهور فقط، هو الذي يسعى لفرض القهر على كل من حوله، أعتقد أن الألم يملأ كيانك، ليس كرجل عسكري وسياسي فقط، لكن في كل حالاتك، لذلك كثيرا ما أتخيلك محاطاً بطيورٍ بلا أجنحة ولا أقدام.. بأحلام مغموسة في الدم وطين الموت، برايات الحداد، كثيراً ما أراك وأنت ترسم بقايا السفن الغارقة، وتلعب لعبتك المفضلة: لعبة القتل.. قتل كل شيء تصل إليه يداك: الأرانب والقطط والحمام و..
كم جثة في سجلك يا فخامة الرئيس؟.. لا شك أن مسيرتك متشحة بالسواد.
كم أتمنى أن تهجر كل هذا العذاب وتنقذ نفسك.. كم أتمنى أن تفارق القمع والكراهية.. أن تقلع عن حبس الناس في السجون.. أن تصير سعيدا وتكف عن لعبة تقسيم شعبك إلى أهل للخير وأهل للشر.
حضرة الرئيس:
لدي أمل ضئيل أن تسمعني، وهذا يكفي كدافع لكتابة الرسالة.
لا تظن أيها الرئيس أنني مغرور أو متكبر، فأنا لست فوق أحد، وخصوصا أنت، نحن جميعا سواسية، هكذا أؤمن، وهكذا أتصرف بصدق.
إن هذه الرسالة ليست كلماتي وحدي، فقد كان من الممكن أن تصل إليك من معظم الناس، لو لم تكن أفواههم مقفلة. أنت تعرف جيداً أن الكلام الآن يعني المجازفة بهدر العمر في السجن، ومن أجل هذا رحل من استطاع، وصمتت البقية.
لا أوجه رسالتي إليك وحدك، ولا أعارض نظامك فقط، فهو ليس إلا حلقة من مسلسل القمع المفروض على البلاد منذ قرون..
أتمنى أن تدرك الوضع وتنزع القيود عن الأغلبية المعذبة، وهذا من أهم أهداف رسالتي: أن تتغير، أن تستحق النجاة، أن تحصل على السعادة، وكلها أهداف لن تتحقق من دون تغيير هذه الأوضاع، فلا شك أنك تعرف مدى الخوف والترهيب الذي فرضه ويفرضه نظام حكمك..
أعتقد أنك تعاني وتتعذب يا فخامة الرئيس، لذلك تفرض العقاب على الجميع.
فلماذا لا تنقذ نفسك وتصبح سعيداً؟
لماذا لا توقف ضخ السم إلى عروق شعبك؟
كم من رمادٍ؟ وكم من دموع؟ وكم من موت بطيء تشيعه جنازات تعيسة على وقع الأحزان القاتمة؟
ما زال الناس في البلاد يتعفنون في الزنازين لأنهم أبدوا رأياً!
عندما يتكلم أحد عن هذه الحقائق الموجعة (التي تسبب لي وجعاً في الروح) يسارع إعلامك بوصف كلامه بأنه "حديث الأحقاد" و"أساطير السواد"، ويتهم الناقدين والناصحين بإشاعة مناخ التشاؤم.
شكراً على التوصيف.. بهذا الهجوم المضاد حللنا المشكلة!
بهذا الافتراء، صَدَّقتْ وصَدَّقَ إعلامك أكاذيبه..
أنتم تتوهمون يا حضرة الرئيس أن بإمكانكم إخفاء جبال من البراز، بمروحة يد صغيرة!
جماعة الرعب (1):
قبل حكمك كانت الجمهورية تهوي، تتدحرج بسرعة نحو الفوضى الرهيبة والصراعات الأيديولوجية، ولم يكن هناك أي ضمانة لحقوق الإنسان، ولم يكن للميسورين فرصة في أن يعيشوا بسلام، وكانت الاعتقالات العشوائية ستتضاعف، والإضرابات الثورية ستستمر بلا حدود، والاغتيالات تزيد في الشوارع، وتعم الفوضى وينعدم الأمن..
هذا بعضٌ مما بررت به انقلابك العسكري، وقلت حينها إن الجمهورية كانت همجية تماما وفوضوية إلى أقصى الحدود.
أنت من أتى بالهمجية يا فخامة الرئيس، أنت من سعى لتقسيم الشعب إلى أخيار وأشرار، وأنا لا أستسيغ هذه القسمة، لأنني أرى الآن وبشكل واضح قسمة أخرى: عنف أعمى، وضحية مطمورة في الرماد..
هناك رجال حُكم عليهم بالإعدام مراراً، فكيف يتسع بطنَ قبرٍ لكل هذه الإعدامات؟
ما أكثر الرجال الذين اختفوا إلى الأبد ولم يظهر لهم أثر!
ما أكثر الرجال الذين خسروا حياتهم وراء جدران الصمت، وسَحَقَهمُ النسيان..
وما أكثر الشهداء الذين ابتلعتهم الأرض ولم يدون لهم اسم في أقواس النصر ولا كتب التاريخ، ولا حتى في ذاكرة الأحياء.. مع أنهم ماتوا وهم يهتفون: "فلـتحـيا الحرية".
دفـن السـردين (2):
قد يقتضي العقل وقد يقتضي الفهم والتسامح وعدم العناد أن نقول: فليذهب كل هذا الألم إلى النسيان.
نعم..
نعم يمكننا أن نقول..
أن نتحمل ونقول..
لكن ليس قبل إدانة كل هذا..
يمكننا أن نقول لكن بعد الاعتراف العلني بأن الجرائم التي جرت ستتوقف ولن تتكرر.
أخبرك بشيء يؤلمني يا سيادة الرئيس:
عندما يسمعني الكثيرون أتحدث عن ضرورة أن أكتب رسالة كهذه إليك، يتهمونني بالتفاؤل لدرجة السذاجة، ويقولون لي ناصحين: إن رجلا مثلك ترأس إدارة الرعب لفترة طويلة، لن يفكر أبداً في الاستدارة وتغيير المسار.. لن يقدر على إيقاف الجرائم التي ارتُكبت وتُرتكب باسمه.
وأنا أرد بنفس السذاجة البريئة التي أعاني منها:
كل إنسان يمكن دعوته إلى نعمة العفو وفضيلة التسامح وواجب الإصلاح..
لِمَ لا؟!
لِمَ لا؟!
__________
هوامش وإيضاحات:
(*) لهذه الرسالة قصة سنوضحها في هوامش المقال الثالث والأخير.
(1) "جماعة الرعب" اسم حركة فنية أسسها الفنانون فرناندو أرابال وأليخاندرو جودوروفسكي ورولان توبور في المنفى الباريسي عام 1962، وأثرت في مسرح القسوة لأنطونين أرتود، وكانت تطمح من خلال جرأتها التعبيرية على كسر سلبية الجمهور وتحريضه على الغضب في مواجهة الواقع الرديء الذي يستسلم له الجمهور، مكتفيا بالانتصار في الفن على طريقة التطهر الأرسطي لتعويض هزائم الواقع.
(2) "دفن السردين" عنوان رواية للكاتب الأسباني فرناندو آرابال، والعنوان مستوحى فنيا من لوحة شهيرة للفنان جويا. والرواية واللوحة تتناولان طقسا دينيا مسيحيا في عيد القيامة، حيث يتم الاحتفال بـ"دفن السردين" يوم أربعاء الرماد وهو دفن رمزي للماضي، من أجل السماح للمجتمع بأن يولد من جديد ويحقق حالة أفضل وأسلم في التعايش المشترك..
[email protected]