خلال عملية سيف القدس العام الماضي، قتلت "إسرائيل" 18 صحفيا، قبلها أيضا، قتلت صحفيّين ومراسلين وطواقم إسعافية. في كل حالة من هذه الحالات، كانت الضحية هي جلاد نفسها. تراوحت روايات الصهاينة بين التهميش الكامل، والحديث عن تحقيقات لن تسفر عن أي نتيجة، بل كانت في معظمها تلقي المسؤولية على
الفلسطينيين، أو على الضحية نفسها.
بعد أقل من ساعتين على استشهاد
شيرين أبو عاقلة للأسف، تحرك ذباب إلكتروني وصفحات مشبوهة لتنفث سمها، وتحول حدث الاستشهاد بفكر متحجر إلى قصة دينية وتبرير لجريمة
الاحتلال؛ إذ أطلت شخصيات ذات توجه سلفي ومحسوبة تاريخيا على المؤسسة الدينية السعودية، واصفة ما حدث بأنه طوشة بين يهودي ومسيحية وانتهى الأمر، ولا يجوز أن نصفها بالشهيدة! لتقوم بتكرار هذه السخافات مئات الصفحات المشبوهة، التي تأكد لي أنها موثقة بأرقام هواتف دول خليجية مطبعة أو شبه مطبعة، في تمييع حقير لجناية الاحتلال ضد شيرين، العاقلة الإنسانة التي لطالما علمتنا في الدورات الإعلامية التي تلقيناها على يديها، بأنها ابنة القدس وفلسطين وكفى، وأنه ليس لها من عدو في العالم إلا المحتل. وكلماتها لا زالت مسجلة وموثقة لدي، وقمت بنشرها على الإنترنت لمن يحب مراجعتها.
حملات على مواقع التواصل الاجتماعي تدار من الغرف المغلقة في تل أبيب لتحول الغضب على الاحتلال إلى مساجلات بين العرب أنفسهم، ونقاش حول دين شهيدة الكلمة شيرين، وهل ستدخل الجنة أو الجحيم. والمشاركون في المهزلة لا يدركون أنهم ضحية لعبة موسادية ملعونة والدين.
أن تقتل "إسرائيل" فلسطينيين، بسبب أو من دونه، يكاد يكون حدثا يوميا، والشهيدة أبو عاقلة، التي قتلها قنّاص صهيوني لا تشذّ عن القاعدة الوحشية الاحتلالية، مجرّد عملية قتل جديدة، لكن أن تكون مراسلة قناة واسعة الانتشار، تحمل أيضا الجنسية الأمريكية، فسيكون الاهتمام أعلى درجة نسبيا. قتل يدخل في صلب الهوية الصهيونية ويخدم مخطّطاتها في إرعاب الفلسطينيين وردعهم وإذلالهم، ومع ذلك لاحظنا النفاق الأمريكي الذي ينتفض لأمريكيين، ولا يعنيه أمريكيون آخرون ما دام أنهم ضد الكيان الصهيوني.
بعد ذلك، ينبري رئيس حكومة العدو نفتالي بينيت ليفتري، ويدعي بأنّ فلسطينيين مسلحين يتحمّلون مسؤولية مقتل الصحفية الفلسطينية، ويكفي أن تتداول وسائل الإعلام الأجنبية تعليقات بينيت والناطق العسكري، لتتحقّق مهمة تعمية الحقيقة وتسويفها أكثر وأكثر.
في إحدى محاضراتها قالت لنا شيرين؛ إنها مع كل تغطية تودع عائلتها الدافئة، تقبّل جبهات الصغار، وتعدهم بالعودة، وتؤمن بأن الخوذة لا تقي من الرصاص، والسترة لا تحمي من الطلقات، والصحافة لا تعصم من الموت قتلا. كانت تعلم أنها ستكون ذات يوم خبرا، هي نفسها الخبر، هي نفسها الحدث، لكنها لم تكن تقول.
منذ أن احتل الصهاينة أرض فلسطين العربيّة شرّدوا أهلها وقتلوا أطفالها، وهم حتّى يومنا هذا ما زالوا مستمرّين بعمليّات القتل بدم بارد، أما يا أستاذتي، فقد غفوتِ فوق ثرى القدس لترتاحين من مشاهد الظلم والقتل والتّشريد، سلامٌ لروحك الطّاهرة يا شهيدة الحقّ وصوته.
[email protected]