هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بنت "العيلة"..
لماذا
يبكي الأحياء أمواتهم؟ ليس فقط بسبب القرابة أو الصداقة أو علاقات الدم. يبكي
الناس أمواتهم لأنهم جزء من حياتهم اليومية، ومض من ذاكرتهم، تاريخهم الشخصي وهم
يكبرون ويتغيرون ويقلون شبابا ويزدادون تجربة يوما بعد يوم.
يبكي
الأحياء أمواتهم لأنهم يفتقدونهم في الليلة الأولى عند صمت المعزين، ويختنقون في
كآبة الفراغ الذي يتركه الأموات في بيوتهم، ويغرقون في بحر "الإنكار"..
آه من بحر الإنكار كم هو مائج ومؤلم ولئيم!
يبكي
الأحياء أحباءهم لأنهم يتخيلون أنهم سيفتحون الباب عليهم كل لحظة، ويظنون أنهم
سيستمعون لصوتهم في الوقت المعتاد، وسينتظرون اتصالهم الهاتفي في وقت غير مناسب.
يبكونهم حينما يمرون من زاوية في البيت اعتادوا أن يجلسوا معا فيها، أو حين
يستمعون لنكتة جمعتهم سويا يوما ما، أو عندما يلفح الروحَ نسيم عابر يذكرهم بهم
عند المرور بشارع عبروه معا مرة واحدة أو ألف مرة، فلا فرق.
بكت فلسطين وشعبها وشعوب الدول العربية جميعها شيرين. لأنها باختصار شريكة لهم في كل لحظة من تاريخهم الشخصي، ولأنها "بنت العيلة" التي حجزت مكانها في بيوتهم منذ خمسة وعشرين عاما دون استئذان
لهذا
كله بكت فلسطين وشعبها وشعوب الدول العربية جميعها شيرين. لأنها باختصار شريكة لهم
في كل لحظة من تاريخهم الشخصي، ولأنها "بنت العيلة" التي حجزت مكانها في
بيوتهم منذ خمسة وعشرين عاما دون استئذان، شاركتهم خلالها أفراحهم وأحزانهم
وانتقالهم التدريجي من الشباب إلى عمر أقل شبابا، و "واكلتهم" بزيتهم
وزعترهم، ووضعت لهم فلسطين يوميا مع خبزهم على وجبة أعدت على حب وعَجَل!
شيرين التي "تشبهنا"!
كيف
استطاعت شيرين أبو عاقلة أن تحصل على كل هذا الحب؟ وكيف أصبحت نجمة رغم أنها خالفت
كل "كليشيهات" النجومية؟ فهي لم تمارس استعلاء وأستاذية كما يفعل كثير
من "النجوم"، ولم تكن شخصية شعبوية لكسب الجماهير كما هو حال كثير من
"الإعلاميين"، ولم تمتلك خطابا نضاليا مرتفع الصوت، ولم تدَّع يوما أنها
"مناضلة".
حصلت على كل هذا الحب بالحب فقط، ولعل التفسير الوحيد لالتفاف الناس حولها هو أنها خالفت "متطلبات" النجومية وكانت تشبهنا نحن الناس العاديين
بين
كل الفيديوهات التي انتشرت لشيرين وعنها خلال الأيام التي تلت استشهادها، ثلاثة
فيديوهات يمكن أن ترسم شخصيتها التي منحتها كل هذا الحب من الناس.
في الفيديو الأول تظهر امرأة من مخيم جنين اسمها "أم أحمد فريحات". تقول أم أحمد باكية إنها عاشت مع شيرين أحداث اقتحام مخيم جنين والصمود الأسطوري لأبنائه عام 2002، وتذكر باللهجة الفلاحية الجميلة أن شيرين "خاضت معركة جنين من أول يوم لآخر يوم.. كانت تدوِّر معي عن أولادي بين الشهداء.. كانت بين الأرقام تدور على الشهداء وهي ريقها ناشف.. والله قنية مي ما لقينا.. أواعيها توسخت وأنا رحت جبت لها ثياب.. والله يوم تلقيت الخبر الصبح انصعقت.. والله انجنيت عليها". جميعا "انجن" عليها يا أم أحمد!
تتحدث
أم أحمد عنها وكأنها ابنتها، لا ألقاب هنا كما هو معتاد بين المواطنين والمشاهير،
ووالله إن هذا لهو الحب الخالص الذي لا يقدر بثمن بين المرء وأبناء شعبه، وهو الذي
أعطى لشيرين محبة الناس دون عناء!
في
الفيديو الثاني تتحدث شيرين لبرنامج اسمه "ناس وحراس" أنتجته مؤسسة
محلية وبثته قناة الحوار الفضائية في رمضان. يدور مقدم البرنامج حسام أبو عيشة
بخفة ظله يوميا في حارات القدس وأزقتها يلتقي مع البائعين والمصلين والزبائن
والناس العاديين في شوارع المدينة العتيقة.
في إحدى الحلقات يمر فجأة من شارع كانت شيرين تجلس على رصيفه بهدوء وبعيدا عن الأضواء، وحين وجه لها سؤاله تحدثت عن المدينة وكأنها كائن حي، وتحدثت عن هموم الناس، وعن المدينة المظلومة. لم يفرق المشاهد بين كلامها وكلام أبناء القدس في البرنامج. كانت منهم فأحبوها وأكرموها عند استشهادها.
في
الفيديو الثالث يظهر خطيب جمعة في قطاع غزة يتحدث بصوت جهوري وكلام جميل عن شيرين،
ويقول بلهجة أهل "البلاد": نحن أولياء الدم. تظهر شيرين في نهاية
الفيديو بعفوية تامة، ترفع علامة النصر على خجل ودون ادعاء نضال، وتتحدث بصوت
فلسطيني واضح ولكنه خافت وتقول "يا رب احم غزة". تكلمت تماما بلغة الناس
وطريقتهم، فشعروا أنها مثلهم.
أحب
الناس شيرين، لأنها مثلهم وليس فقط تشبههم!
عند بدايات الجزيرة، بدأ المشاهد العربي يتعلم الإعلام. تختلف مع الجزيرة أو تتفق معها ولكن لا خلاف على أنها شكلت اختراقا للإعلام الإخباري العربي منذ تأسيسها
عند
بدايات الجزيرة، بدأ المشاهد العربي يتعلم الإعلام. تختلف مع الجزيرة أو تتفق معها
ولكن لا خلاف على أنها شكلت اختراقا للإعلام الإخباري العربي منذ تأسيسها. ومن
الأشياء التي تعلمناها من الجزيرة فكرة "الخبر العاجل"، حيث يأتيك الخبر
المهم في وقته دون أن تضطر لانتظار موعد نشرة الأخبار القادمة لتعلم كل جديد. كانت
الانتفاضة الفلسطينية الثانية أول حدث إخباري ساخن وممتد زمنيا بعد تأسيس الجزيرة.
كنا ننتظر النشرات والأخبار العاجلة وأحيانا الخطابات.
أذكر تماما أن المارين في الشوارع في مدينة الزرقاء في الأردن مثلا كانوا يدخلون لمحلات البقالة أو المطاعم القليلة التي كان فيها شاشة تلفزيون أثناء بث خطاب مهم أو خبر عاجل على الجزيرة عن الانتفاضة.
أدخلت
شيرين وزملاؤها في الجزيرة وغيرها من وسائل الإعلام فيما بعد فلسطين إلى بيوت
الناس. قدمت شيرين صور الشهداء وحكايات الأسرى وعذابات المهجرين ومعاناة العائلات
التي هدم الاحتلال بيوتها، وحنين اللاجئين في القرى المهجرة في فلسطين عام 1948،
ومأساة الفلاحين الذين سرق الاحتلال أراضيهم، وقصص الوجد والألم والحزن والأمل
والانكسار والصمود والتحدي على الحواجز العسكرية في الضفة وجدار العزل. قدمت شيرين
فلسطين كما هي في تقاريرها وأخبارها العاجلة وقصصها الإخبارية وتغطياتها.
وفي
يوم استشهادها، قال الكثيرون إن شيرين صارت هي الخبر العاجل. بعد أن كانت تقدمه كل
يوم، وهو قول صحيح ومؤثر، ولكن الأهم هو أن فلسطين قدمت شيرين في هذا اليوم وما
تلاه إلى العالم. كانت حارات القدس توزع صورها، وتغريدات المغردين تتناقل كلامها،
وأزقة مخيم جنين تتحول لشاشة تلفزيونية تصل للعالم بأسره. لم تكن شيرين يوم
استشهادها خبرا عاجلا فقط، بل كانت خبرا أبديا لا ينتهي عن فلسطين ومن فلسطين،
للأمة والعالم أجمع.
شيرين.. فلسطين.. ومعركة الوعي
لا
يصدق الناس شيئا مثلما يصدقون "الدم"، ولا يصدقون دما مثل دم
"الشهداء". خلال السنوات العشر الماضية تصاعدت حملة كي الوعي العربي
تجاه فلسطين من قبل "صهاينة العرب"، صاروا يروجون لأكاذيب وروايات
صهيونية ويتهمون
الفلسطينيين بكل نقيصة. كنا نقول خلال تلك السنوات العجاف إن ارتقاء أي شهيد في
مواجهة مع الاحتلال سيمحو طنين آلاف الذبابات الإلكترونية، وهذا ما كان يحصل فعلا
عند أي مواجهة مع الاحتلال.
لم يكن الإجماع الذي شهدته كل وسائل التعبير في الوطن العربي من المحيط والخليج وأكثر من ذلك في كل بقاع الدول المسلمة وبين أحرار العالم لأجل شيرين فقط، ولأجل صحفية قتلت أثناء أدائها عملها -على أهمية ذلك-، ولكنه إجماع على الحق الفلسطيني، والتفاف حول الرواية، رواية الشعب الذي ناضل لعقود.
الجنازات
كثفت
"جنازات" شيرين كل الرمزيات في الصراع العربي الإسرائيلي. حضرت
رمزية حب الشعب الفلسطيني ومن خلفه شعوب الدول العربية لمن يربطهم بفلسطين، وهذا
ما كانت شيرين تفعله خلال خمسة وعشرين عاما. كان المشيعون من جنين إلى رام الله
إلى القدس مرورا بالحارات المسكونة بالمعاناة والصمود يردون لها الجميل، وهي التي
طبعت قبلة حب وصورة كاميرا وصوت "بيس تو كاميرا" على كل شبر في هذه
الحارات خلال عملها المضني والطويل.
كثفت "جنازات" شيرين كل الرمزيات في الصراع العربي الإسرائيلي. حضرت رمزية حب الشعب الفلسطيني ومن خلفه شعوب الدول العربية لمن يربطهم بفلسطين، وهذا ما كانت شيرين تفعله خلال خمسة وعشرين عاما
حضرت
في الجنازات رمزية صراع الفلسطيني مع المحتل الذي يحاربه حيا وميتا من المهد إلى
اللحد. كان المشيعون يمارسون في مسيرتهم الطويلة بالنعش صراعا أخيرا للشهيدة مع
الاحتلال، بين رغبة الشعب بتمجيد شهيدته وسطوة الجلاد الذي يريد منع الشعب من
مكافأة شهدائه بوداع يليق به وبهم. انتصر الشعب في هذه الجولة، وسينتصر في جولات
قادمة في الحياة أيضا وليس فقط بالاحتفاء بالموت الزاخر بالمعاني.
مثلت
الجنازة رمزية وحدة الشعب في مواجهة القتلة. حمل المشيعون الشهيدة دون الالتفات
لدينها واختلافها عن الأغلبية، حضر المسيحون في الجنازات وكان المسلمون أكثر حضورا،
وسجلوا ضربة قاتلة بصدر المحتل الذي ظل يسعى منذ النكبة لتشتيت ضحاياه واللعب على
وتر اختلافاتهم. كانت الجنازة عزفا على وتر الوحدة الجميل بدلا من ذلك.
في
المشهد الأخير للجنازة، صلى المسلمون الجمعة في مساجدهم، وفي ساحات القدس،
وانطلقوا للاحتفاء بالشهيدة عند وصولها للكنيسة. ردد المسيحون تراتيلهم وهتف المسلمون
"لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله". عبد المختلفون ربهم كل حسب دينه،
ولم يتخل أي منهم عن إيمانه. حافظوا على تنوعهم الديني وتمسكوا باتفاقهم الوطني.
معركة النعش والعلم
منذ
عام 1973 بدأ الاحتلال يخسر معظم حروبه مع الفلسطينيين والعرب. لا نتوهم بأنه عدو
ضعيف، بل هو عدو قوي ولكنه مع ذلك يهزم في حروبه. حرب رمضان، الانسحاب المذل من
لبنان، الهروب من غزة، حرب تموز، حروب غزة، سيف القدس، اللد، كلها حروب خسر
الاحتلال فيها سطوته وفشل في تحقيق انتصار كامل. خسرنا في هذه الحروب كثيرا من
الشهداء والجرحى والبيوت المدمرة والمعتقلين، ولكن الاحتلال خسر أيضا. ثمة حرب
واحدة بعد 1973 سجلت انتصارا كاملا على العدو، وهي معركة النعش والعلم. انتصار
نظيف لا خسارات فيه!
مثلت الجنازة رمزية وحدة الشعب في مواجهة القتلة. حمل المشيعون الشهيدة دون الالتفات لدينها واختلافها عن الأغلبية، حضر المسيحون في الجنازات وكان المسلمون أكثر حضورا، وسجلوا ضربة قاتلة بصدر المحتل الذي ظل يسعى منذ النكبة لتشتيت ضحاياه واللعب على وتر اختلافاتهم
لم
يسقط النعش. سقطت صورة الاحتلال! صوَّر تابوت شيرين حرب الدولة المدججة بالسلاح
ضده، ونقل الصورة للعالم. تحول تابوتها لكاميرا كما أبدع في الوصف رسام
الكاريكاتير عماد حجاج.
بعد
هزيمته في معركة النعش حاول المحتل الانتصار على العلم الفلسطيني. ربح جولته
الأولى مع العلم في الطريق بين المستشفى الفرنسي والكنيسة، ولكنه أدرك عبثية حربه
واستسلم أمام الشلال البشري الذي حمل النعش من الكنيسة للمقبرة وكان أكبر من قدرة
الجيش على وقفه. كانت شيرين حاضرة في المشهد، وكان الشعب حاضرا، وكان الصحفيون
حاضرين، ولكن العلم المنتصر على الاحتلال كان أكثر حضورا وبهاء في هذه الجولة.
الرمز
يقول
علماء الوطنيات إن أي شعب يحتاج لرموز مشتركة لصناعة هويته، لدرجة أن بعض النخب
السياسية "تخترع" أحيانا رموزا متخيلة لإقناع شعوبها بوجود هوية وطنية
جامعة لهم. مثله مثل غيره من شعوب الدول العربية الضاربة بالقدم والحضارة، لدى
الشعب الفلسطيني آلاف الرموز، من الدين واللغة والأرض والتاريخ والقادة المبجلين
والشهداء والرايات والأغاني الشعبية و"الشبابة" والدبكة
و"دحية" النقب والمقلوبة والحمص الذي يحاولون سرقته.
صارت شيرين رمزا جديدا لفلسطين وشعبها وشعوب المنطقة، مع أن شخصيتها تخبرنا أنها لم تسع لذلك. صارت رمزا دون شعارات فارغة أو ادعاء. لماذا -أيها الاحتلال الغافل- يحتاج شعب لديه رمز حصل في يومين على حب يكفي العالم لاختراع رموزه المشتركة؟
لو
قدر لنا أن نقرأ ما سيكتب في التاريخ بعد مائة عام لعرفنا أن أيام النكبة في عام
2022 أخذت اسما جديدا، هو "أيام شيرين". سيقول المؤرخون: كانت "أيام
شيرين" درسا في علم الاجتماع السياسي عن النضال الوطني الذي يصنع الرمز
والهوية، رغما عن الاحتلال وأحيانا عبر غباء هذا الاحتلال -وكل احتلال هو بالضرورة
قاتل وغبي-!