لم يكن استهداف
شيرين أبو عاقلة أمرا عاديا، بل كان جريمة مروعة موصوفة متكاملة الأركان، استهدفت عالم الصحافة وحرية الإعلام. الجهة القاتلة مكشوفة الوجه، والضحية معروفة جدا، ورغم هذا الحدث الأليم والمحزن، إلا أن الدول الغربية كشفت عن ازدواجية مقيتة في تعاملها مع مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة.
هي صحفية
فلسطينية تعمل في وكالة إعلامية عالمية (قناة الجزيرة الفضائية) منذ زمن طويل، وهي أشهر من نار على علم، وهي تحمل الجنسية الأمريكية، وهي قتلت أمام مرأى ومسمع العالم، وهي من سكان مدينة القدس المحتلة، بؤرة الصراع.
تراوح الموقف الغربي باستهداف الصحفية شيرين أبو عاقلة بين الوصف أو التنديد في أحسن الحالات، وبعضهم دعا إلى
التحقيق بمهنية وموضوعية في أمرها، وفي كل البيانات كان يتم اختيار العبارات بعناية فائقة؛ خوفا من أن يشكل هذا الأمر إحراجا لدولة الاحتلال.
تخيل معي دولة بحجم الولايات المتحدة لم يتعد دورها وصف الحدث ثم الحزن عليه ودعوة الاحتلال إلى التحقيق فيه، وهي القادرة على اتخاذ إجراءات عملية، إن أرادت.
الأهم من فتح التحقيق هو تطبيق التوصيات الصادرة عنه، لا أن يضاف إلى سلسلة تحقيقات سابقة حصلت في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي ارتكبت فيها جرائم مروعة
والشيء مثله مع باقي الدول الغربية التي ما تجاوز سلوكها بيانات الحزن والأسف، مع فارق شكلي في العبارات.
ومن المهم التذكير هنا بأن جرائم الاحتلال بخصوص استهداف الصحفيين الفلسطينيين كثيرة وممنهجة، وثمة تقارير عديدة بهذا الخصوص.
الجميع يدعو إلى فتح تحقيق ولكن من يتخذ القرار؟
خبراء الأمم المتحدة قالوا؛ إن "مقتل أبو عاقلة، التي كانت تؤدي بشكل واضح مهامها كصحفية، قد يشكل جريمة حرب".
من هنا، يمكن الانطلاق في البحث الحقوقي والقانوني. من خلال المتابعة، فإن أكثر العبارات التي وردت من جهات كثيرة هي الدعوة إلى فتح تحقيق، ولكن لم يتم اتخاذ قرار بهذا الخصوص بعد. الأمم المتحدة نفسها وأمينها العام، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، الدول العربية، الاتحاد الدولي للصحفيين، المنظمات الحقوقية.. دعوا إلى فتح تحقيق.
والأهم من فتح التحقيق، هو تطبيق التوصيات الصادرة عنه، لا أن يضاف إلى سلسلة تحقيقات سابقة حصلت في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي ارتكبت فيها جرائم مروعة.
على كل حال، ما هي الجهات المخولة بفتح تحقيق؟
هل تشكل عملية اغتيال شيرين أبو عاقلة تهديدا للسلم والأمن الدوليين. أما الثانية هل تسمح الولايات المتحدة، الداعم الأساسي لدولة الاحتلال الإسرئيلي، بذلك ولا تستخدم حق النقض (الفيتو). كما يحق لمجلس الأمن الطلب من محكمة الجنايات الدولية فتح تحقيق في جريمة بعينها
أولا: مجلس الأمن الدولي
بإمكان مجلس الأمن فتح تحقيق جدي وحقيقي على غرار جرائم كثيرة حصلت منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، بل وأكثر من ذلك، بإمكانه إنشاء محاكم خاصة (محكمة
اغتيال الحريري، محكمة يوغوسلافيا، محكمة رواندا وبروندي).
ثمة مشكلتان بهذا الخصوص؛ الأولى هل تشكل عملية اغتيال شيرين أبو عاقلة تهديدا للسلم والأمن الدوليين. أما الثانية، هل تسمح الولايات المتحدة، الداعم الأساسي لدولة الاحتلال الإسرئيلي، بذلك ولا تستخدم حق النقض (الفيتو)، كما يحق لمجلس الأمن الطلب من محكمة الجنايات الدولية فتح تحقيق في جريمة بعينها.
ثانيا: مجلس حقوق الإنسان
وكان مجلس حقوق الإنسان قد شكل لجنة دائمة وشاملة في أيار/ مايو الماضي، بخصوص الأحداث التي حصلت في الأراضي الفلسطينية المحتلة للبحث في الأسباب العميقة للتوترات.
واكتسب قرار تشكيل هذه اللجنة أهمية خاصة، كون لجنة التحقيق هذه دائمة ومستمرة، وكونها تشمل كل فلسطين بما فيها الداخل المحتل عام 1948.
هل تباشر هذه اللجنة عملها بالتحقيق في جريمة اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة؟ وهل ترفع خلاصاتها وتوصياتها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتخاذ ما يلزم؟
تحمل الشهيدة شيرين أبو عاقلة الجنسية الأمريكية، الأمر الذي يوفر فرصة ذهبية لمحاكمة قتلة شيرين أمام المحاكم الأمريكية. الدلائل والوثائق المتوفرة حاسمة، ويمكن الاعتماد عليها في أية محاكمة
ثالثا: المحكمة الجنائية الدولية أكد مكتب المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية
في آذار/ مارس 2021 الشروع في إجراء تحقيق يتعلق بالوضع في فلسطين، وسيغطي التحقيق جرائم تدخل في اختصاص المحكمة، التي يُزعم أنها ارتكبت منذ تاريخ 13 حزيران/ يونيو 2014. وبالعودة إلى جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة، فقد أكد خبراء أمميون أن هذه الجريمة ترقى إلى مستوى جريمة حرب، وهي تدخل حكما في اختصاص محكمة الجنايات الدولية الموضوعي والمكاني. فهل تباشر محكمة الجنايات الدولية عملها والتحقيق في هذه الجريمة؟ وهل سوف يباشر المدعي العام مهامه بفتح تحقيق بهذه الجريمة؟
رابعا: الولايات المتحدة الأمريكية
تحمل الشهيدة شيرين أبو عاقلة الجنسية الأمريكية، الأمر الذي يوفر فرصة ذهبية لمحاكمة قتلة شيرين أمام المحاكم الأمريكية. الدلائل والوثائق المتوفرة حاسمة، ويمكن الاعتماد عليها في أية محاكمة.
الموضوع يحتاج إلى أمرين؛ الأمر الأول هو البحث بشكل مهني وجدي في أفضل الخيارات هناك، أما الأمر الثاني فهو من يتخذ القرار، ومن يتحمل تبعاته السياسية والمالية؟ ولعل إدارة شبكة الجزيرة قادرة أفضل من غيرها في اتخاذ هذا القرار.
خامسا: دولة فلسطين
تمتلك دولة فلسطين الحق في اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية، وهي القادرة على توفير كل الدلائل والوثائق المطلوبة.
جريمة اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة كانت موصوفة ومروعة بكل المقاييس، ولعلها تشكل فرصة إضافية للدخول في معركة حقوقية وقانونية بحكمة واقتدار، نمتلك فيها الخبرة والمهنية من جهة، والقرار والجرأة من جهة أخرى
وبخصوص جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة، فأبو عاقلة مواطنة فلسطينية، والسلطة هي من قامت بتشريح الجثة، وهي من تمتلك التقارير الطبية بهذا الخصوص. المطلوب أولا هو اتخاذ القرار الجريء بهذا الخصوص، وعدم الرضوخ للضغوط الأمريكية والإسرائيلية، ثم اللجوء بشكل واضح ومهني وعملي إلى تفعيل المسارات القانونية.
مختصر القول، هو أن جريمة اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة كانت موصوفة ومروعة بكل المقاييس، ولعلها تشكل فرصة إضافية للدخول في معركة حقوقية وقانونية بحكمة واقتدار، نمتلك فيها الخبرة والمهنية من جهة، والقرار والجرأة من جهة أخرى.
ومن خلال تجارب مؤسفة كثيرة، لا أظن أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تتخذ قرارات جريئة وشجاعة لملاحقة مجرمي الحرب
الإسرائيليين. ولسنا هنا بحاجة لمزيد من الجهد لاكتشاف أن الدول الغربية ترى بعين واحدة، وهي تمارس ازدواجية فجة في المعايير وتقف صامتة حذرة إذا تعلق الأمر بدولة الاحتلال الإسرائيلي، سواء كانت الضحية صحفية مشهورة تعمل في قناة فضائية كبيرة، أم كان الأمر يتعلق بسيل من الدم ينزف كل يوم من أبرياء غير معروفين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. الأمر يتعلق بنا نحن، نعم نحن أصحاب الحق، فما ضاع حق وراءه مطالب.