لأيام معدودات نودي في البريطانيين ليشهدوا أفراحا لهم واحتفالات صاخبة، ليس بمناسبة عيد وطني، ولا بمناسبة ذكرى إحياء أمجاد إمبراطوريتهم التي كانت لا تغيب عنها الشمس، ولا حتى إحياء لنصر مملكتهم وحلفائها على النازية في الحرب العالمية الثانية مثلا.
الأمر ببساطة يتعلق، يا سادتي الكرام، بذكرى مرور سبعين عاما على جلوس الملكة إليزابيث الثانية على العرش، أو اليوبيل البلاتيني لحكم هذه السيدة التي عايشت أحداث سبعة عقود، متنقلة بين قصورها الفارهة، ولا تطل على أبناء شعبها إلا في المناسبات الرسمية، وفي معظمها مناسبات تتعلق بالعائلة المالكة.
لم يتخلف البريطانيون عن القدوم من كل حدب وصوب للمشاركة في هذه المناسبة على مدى أربعة أيام بلياليها، ورأيتَهم مبتهجين وهم يتابعون عشرات العربات الكلاسيكية تجرها الخيول ويصطحبها المئات من عناصر الحرس الملكي، وهم يعزفون أناشيد على شرف مليكتهم.. وفي الجو حلقت مقاتلات من سلاح الجو الملكي، وكتبت العدد "70" تكريما للملكة ذات الستة والتسعين عاما، رغم أنها غابت عن الاحتفالات لأسباب صحية.
وأنا أتابع هذا "البذخ"، حدثتني نفسي: ما هذا التبذير؟ ألم يكن أولى صرف هذا الجهد وإنفاق هذا المال على أولويات الشعب البريطاني، بدل إنفاقها على ذكرى تتعلق بشخص واحد؟
قالت لي نفسي: الحمد لله لقد خلصتنا جمهورياتنا من هذا النظام القائم على شخص واحد.
بمقارنة بسيطة بين بريطانيا وبعض الجمهوريات، تجد أن بريطانيا الملكية حكمها منذ 1952، تاريخ جلوس إليزابيث الثانية على العرش، 14 رئيس وزراء، بينما بلد مثل ليبيا، الجماهيرية، لم يعرف سوى حكم رجل واحد انتهى مع ما يعرف بالربيع العربي. أما مصر الجمهورية، التي "تخلصت من براثن الملكية" فلم تعرف (حتى بداية الربيع العربي) سوى ثلاثة رؤساء من الجيش
لكن.. عفوا.. أجمهوريون نحن؟ أجمهوريات ملكية؟؟
بمقارنة بسيطة بين بريطانيا وبعض الجمهوريات، تجد أن بريطانيا
الملكية حكمها منذ 1952، تاريخ جلوس إليزابيث الثانية على العرش، 14 رئيس وزراء، بينما بلد مثل ليبيا، الجماهيرية، لم يعرف سوى حكم رجل واحد انتهى مع ما يعرف بالربيع العربي. أما مصر
الجمهورية، التي "تخلصت من براثن الملكية"، فلم تعرف (حتى بداية الربيع العربي) سوى ثلاثة رؤساء من الجيش، عمّر ثالثهم نصف ما عمرته إليزابيث الثانية تقريبا.
الحال طبعا ينسحب -وبتفاوت بسيط في عدد السنين- على العراق، وتونس وسوريا واليمن، وهي جمهوريات فردية ورثت ملكيات فردية.
عندما اندلعت شرارة الثورات العربية أواخر 2010 -وباستثناء تونس التي تنازع ديمقراطيتُها-، لم تنجُ من السقوط في مستنقع الاقتتال الداخلي والحرب الأهلية المدمرة، سوى الدول ذات الحكم الملكي، رغم الفرق الشاسع بين ملك حكامها وملك ملكة بريطانيا. ورغم تشابه الظروف البائسة التي تعيش في ظلها الشعوب العربية، ملكيا كان نظامها أو جمهوريا، فإن الجماهير حين خرجت طالبت برحيل الأنظمة في الجمهوريات، بينما اقتصرت المطالب في الدول الملكية على الجانب المعيشي.
وبمقارنة بسيطة أيضا بين ما كانت عليه أحوالنا أيام الملكية، وما باتت عليه في ظل الجمهوريات، ترى مفارقة مفادها أن العصر الذهبي -وأقولها بتحفظ- كان في حقبة الملكيات، على ما فيها من فردية الحكم وعيوب في تدبير شؤون الناس ومظاهر الإقطاعية في بعض الأنظمة.
بمقارنة بسيطة أيضا بين ما كانت عليه أحوالنا أيام الملكية، وما باتت عليه في ظل الجمهوريات، ترى مفارقة مفادها أن العصر الذهبي -وأقولها بتحفظ- كان في حقبة الملكيات، على ما فيها من فردية الحكم وعيوب في تدبير شؤون الناس ومظاهر الإقطاعية في بعض الأنظمة
اسأل عن مصر كيف كانت قبلة لليونانيين والإيطاليين، واسأل عن مساعي تطوير التعليم والبنى التحتية في ليبيا أيام الملك إدريس السنوسي.
اسأل عن حال العراق وخاصة في مجال التعليم أيام الملكية، قبل أن تخربه مغامرات العسكر وتحوله إلى دولة فاشلة بامتياز.
ولعله من باب الحرص على هيبة الملك و"البرستيج" أمام بقية الملكيات في العالم، سعى ملوك بعض بلداننا إلى تحسين مظاهر الحياة وتنظيمها ولو شكليا.. ومع ذلك كانت تلك المساعي تعود بالنفع على الناس.
وتقول تحليلات سياسية؛ إن الأنظمة الملكية أكثر استقرارا، وذلك ربما لأنها في معظمها تستند إلى شرعية تاريخية ودينية، ومن ثم فإن بقاءها في الحكم والخوف من سقوطها عادة ما تكون مسائل غير مطروحة بقوة.
ويكفي أن نذكر أن أسعد شعوب الأرض وفق مقاييس الأمم المتحدة، شعوب الدول الإسكندنافية، وهي دول ملكية.
وربما من الأشياء اللافتة أنه عندما سقطت حكومة طالبان الأولى عام 2001، وخاض الناس في نظام الحكم، نادت أصوات من الداخل والخارج تنادي بعودة الملكية، وبعد سقوط نظام القذافي في ليبيا عام 2011، تعالت أصوات صريحة تطالب بعودة الملكية باعتبارها عنصرا قد يوحد الليبيين.
هيا بنا نعد ملكيين..
حتى لا يكون الاختيار بين سيئ وأقل سوءا، فلنتجنب المثالية، ولتكن الملكية التي ننشدها دستورية ترعى الحد الأدنى من التفريق بين السلطات وتصون كرامة الإنسان
لا يمكن بأي حال أن نكون دعاة للحكم الملكي -خاصة إن كان فرديا مطلقا- بدعوى أنه الضامن لأمن البلاد ووحدتها واستمرارها كيانا متماسكا.. لكن أيضا لا يمكن بأي حال أن يختلف اثنان على أن الجمهوريات الملكية لم تجلب لنا سوى الدمار.
وحتى لا يكون الاختيار بين سيئ وأقل سوءا، فلنتجنب المثالية، ولتكن الملكية التي ننشدها دستورية ترعى الحد الأدنى من التفريق بين السلطات وتصون كرامة الإنسان.
وليسكن الملك قصرا فارها وليركب في عربات كلاسيكية، وليكن رمزا يوحد الوطن والناس.. تماما كما تفعل الملكة إليزابيث الثانية.. ولنكن نحن ملكيين مثل الملك.