في منتصف ليلة الثاني من شهر حزيران/ يونيو 2022 أصدر رئيس الجمهورية في
تونس قرارا بعزل سبعة وخمسين قاضيا وقاضية دون محاكمة ودون حق في الدفاع أو التشكي. بُنيَ القرار على ثلاثة مرتكزات أساسية: فساد
القضاء، وتعطيل مرفق العدالة، وضرورة بناء قضاء نظيف في جمهورية الانقلاب الجديدة.
لم يكن القرار مفاجئا لكل من درس طبائع الاستبداد واطّلع على سيرة الطغاة وتاريخ الانقلابات، إذ لا يمكن لأية سلطة جديدة أن تقوم وتُقام إلا بوضع اليد كاملة على السلطات الثلاث المحركة للمجتمع والدولة. وهو ما أبدع فيه النظام الجديد بعد أن ألغى العمل
بالدستور وأغلق البرلمان وطارد نواب الشعب وحلّ الحكومة القائمة وعوّضها بأخرى صوريّة، وبذلك لم تبق له إلا السلطة القضائية لتكتمل أركان الانقلاب ويستتب الأمر للنظام الجديد.
بإلغاء السلطة التشريعية والقضائية يكون الجهاز التنفيذي ممثلا في رئاسة الجمهورية الحاكم الوحيد المطلق في تونس، ليعيدها كرها إلى زنزانة الدكتاتورية بشكل أبشع مما كان قبل الثورة.
صحيح أيضا أن قضاة تونس يقاومون اليوم بصلابة نادرة مشروع الدكتاتورية الناشئة، وهو ما يبرز جليا في
الإضراب الذي انطلق في كامل محاكم البلاد وقصور العدالة نُصرة للاستقلال القضاء ورفضا لمشروع الاستبداد الجديد، لكنّ هذا الفعل المقاوم لن يكون كافيا ما لم تنتبه النخب الفكرية والسياسية ومختلف مكونات المجتمع إلى أن معركة القضاء هي آخر جولات الانقلاب، وأنّ الهزيمة فيها تعني دخول البلاد أشدّ الأنفاق قتامة وظلمة في تاريخها.
هذا الفعل المقاوم لن يكون كافيا ما لم تنتبه النخب الفكرية والسياسية ومختلف مكونات المجتمع إلى أن معركة القضاء هي آخر جولات الانقلاب، وأنّ الهزيمة فيها تعني دخول البلاد أشدّ الأنفاق قتامة وظلمة في تاريخها
فساد القضاة: حق أريد به باطل
بعد أن قصفت أذرع الدولة العميقة -الحاكم الفعلي للبلاد- وعي التونسيين بسرديات فساد النوّاب طوال أشهر عديدة مقدمةً لذبحهم، انطلقت في الطور الثاني مركزةً قصفها على القضاة تمهيدا لمصير مماثل. نجح الطور الأول في شيطنة نوّاب مجلس الشعب وحيكت حول فسادهم الأساطير المغرية لتتلقفها آذان الشعب الجائع الناقم، فيتحوّل النائب المنتخب شيطانا يرقص لعزله السذّج والناقمون. أما الطور الثالث وهو آخر أطوار الانقلاب، فسيفتك بكل مكونات الأحزمة المدنية وعلى رأسها المركزية النقابية وبعض المنصات الإعلامية الصامدة، وكل الجمعيات والمنظمات والهيئات المدنية التي ترفض الانخراط في المشروع الجديد.
لم ينتبه كثيرون إلى مخطط الانقلاب ليلة الخامس والعشرين من تموز/ يوليو 2021، حين أعلن قائده عن استحواذه على النيابة العمومية أو القضاء قبل أن يتراجع عن ذلك بسرعة، بعد أن أيقن أنه ارتكب خطأ منهجيا. أجّل المنقلب غزوة القضاء إلى حين استكمال الطور الأول المخصص لحلّ السلطة التشريعية فعليا، بالتوازي مع قصف جبهة القضاة والتلميح إلى فساد النقابات والهيئات المدنية.
لا يمكن أن ننكر حجم
الفساد الذي كان يسبح فيه قطاع القضاء طوال أكثر من نصف قرن من عمر دولة الاستبداد في عهد الوكيلين بورقيبة وابن علي، حيث كان يأتمر في جزء منه بأوامر النظام الحاكم خاصة فيما يتعلق بالقضايا السياسية والمالية الكبرى. بلغ القضاء ومنظومة العدالة أوج فسادهما مع نظام ابن علي بعد سيطرة العائلة على مقاليد السلطة وتحولا إلى أداة في قبضة العصابات المتنفذة، لينحسر مجال الهامش المتبقي من السلطة القضائية مؤذنا بالانفجار الكبير.
لكنها رغم ذلك لم تندمج كليا في النظام السياسي، بل بقيت في جزء منها تحاول قدر المستطاع صيانة الحدّ الأدنى الممكن من قيم العدالة التي تمنع انهيار الدولة والمجتمع. ثم جاءت الثورة وكانت مؤسسة في جوهرها على المطالبة بالعدل والقصاص من المجرمين، الأمر الذي ظهر جليا في أول شعارات الثورة "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق".
أهدر القضاة فرصة تاريخية نادرة لصياغة مرحلة الاستقلال الفعلي عن السلطة التنفيذية بعد الثورة، وشاركت الأحزاب السياسية وخاصة الأحزاب المحسوبة على الثورة في عرقلة هذه المهمّة. كانت الجماهير تنتظر من مرفق العدالة أن يقود من داخله مهمّة تطهير القطاع من بقايا النظام القديم ومن مجاميع الاختراق السياسي لهذا الطرف أو ذاك
أهدر القضاة فرصة تاريخية نادرة لصياغة مرحلة الاستقلال الفعلي عن السلطة التنفيذية بعد الثورة، وشاركت الأحزاب السياسية وخاصة الأحزاب المحسوبة على الثورة في عرقلة هذه المهمّة. كانت الجماهير تنتظر من مرفق العدالة أن يقود من داخله مهمّة تطهير القطاع من بقايا النظام القديم ومن مجاميع الاختراق السياسي لهذا الطرف أو ذاك، وأن يشرف على محاسبة من أجرم في حق الشعب والثورة من قتلة وقناصة ورجال عصابات ومجاميع النهب والسطو على مقدرات الشعب والبلاد.
لم يلتحم القضاء بهموم شعبه لأسباب داخلية وخارجية عديدة، فارتبك أداء سلطته أمام تدخل الأحزاب السياسية وتواطؤ السلطة التنفيذية في تعطيل تطبيق الأحكام، فسادت الفوضى والإفلات من العقاب وأهدرت الفرصة التاريخية.
فساد القضاة أم فساد الانقلاب
لا يستقيم الحديث عن فساد القضاء دون الإشارة إلى أنه لا يمكن أن يكون كذلك إلا داخل دولة فاسدة، أما السياق التونسي المستهدف بجريمة الانقلاب اليوم -سنوات الثورة العشر- فقد كان سياقا انتقاليا بامتياز، وقد حقق فيه القضاء دون مبالغة قفزة نوعية في محاولة التخلص من سطوة السلطة التنفيذية. ليس أدلّ على ذلك من فشل الرئيس السابق "الباجي قائد السبسي" في إدانة مدوّن بسبب نقده اللاذع له وخسارة القضية أمامه، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تذكر في هذا السياق.
الفساد الذي يتهمّ به قائد الانقلاب قضاة تونس إنما يندرج داخل تصوّره الخاص للفساد، وهو الأمر الذي بدا جليا بعد الندوة الصحفية الأخيرة التي عقدها القضاة وقرروا فيها الإضراب العام والتصدي للانقلاب
لكنّ الفساد الذي يتهمّ به قائد الانقلاب قضاة تونس إنما يندرج داخل تصوّره الخاص للفساد، وهو الأمر الذي بدا جليا بعد الندوة الصحفية الأخيرة التي عقدها القضاة وقرروا فيها الإضراب العام والتصدي للانقلاب. ففي مشهد مفزع شاهد ملايين التونسيين قضاةً يبكون وقاضيات يبكين أمام عدسات التلفاز، وكانت الصدمة الأكبر حين صرّحت قاضية فاضلة بأنّ سلطة الانقلاب حاولت ابتزازها
وشهّرت بها وهتكت عرضها بأن اتهمتها بالزنا بسبب رفضها الخضوع لأوامر إحدى قريبات الرئيس. كانت هذه القطرة التي أفاضت الكأس وأثارت موجة عارمة من الاستهجان في أوساط التونسيين، خاصة بعد أن ذكر قائد الانقلاب لفظيا "تهمة الزنا" على القاضية في خطاب رسمي أمام عدسات التلفاز.
ليس هذا السقوط الأخلاقي المريع هو آخر خناجر الانقلاب، بل أمعن في استهداف كل القضاة الذين رفضوا إعلان الولاء لمشروع نحر السلطة القضائية، وهو الأمر الذي تؤكده قائمة القضاة المعزولين. ضمّت القائمة قضاة مشهودا لهم بالنزاهة والكفاءة، بل كان الجامع المشترك بينهم رفض الانصياع الأعمى لسلطة الانقلاب ومحاولاته توظيف القضاء لتصفية خصومه السياسيين وتزوير محاضر البحث وتلفيق التهم وتركيع الخصوم.
لم يكن مشروع الانقلاب على السلطة القضائية ممكنا دون توفّر شروط ذلك من داخل المؤسسة القضائية خاصة والحقوقية عامة، حيث نجح المشروع الانقلابي في استقطاب قضاة ومحامين وجامعيين مكلّفين بمهمة تركيع المرفق القضائي مقابل مناصب وترقيات وامتيازات
لم يكن مشروع الانقلاب على السلطة القضائية ممكنا دون توفّر شروط ذلك من داخل المؤسسة القضائية خاصة والحقوقية عامة، حيث نجح المشروع الانقلابي في استقطاب قضاة ومحامين وجامعيين مكلّفين بمهمة تركيع المرفق القضائي مقابل مناصب وترقيات وامتيازات. كذلك لن يكون مشروع إسقاط الانقلاب ممكنا دون توفر شروط ذلك من داخل المؤسسة القضائية والحقوقية التي ستدافع عن آخر قلاع السلطة، وعن المسار الثوري وعن مصير بلد بأكمله.
المشهد المستعاد
"
مذبحة القضاة" لفظ أطلق على عملية مماثلة وقعت في مصر سنة 1969، حيث قام النظام الناصري في مصر بعزل 189 قاضيا بسبب رفضهم دمج السلطة القضائية في النظام السياسي، أي رفض هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية. كان عبد الناصر يعمل على خلق نموذج ما يسمى "قاضي النظام" الذي سيشرف على مشاريع "المحاكم الاستثنائية" التي تطبّق أحكام النظام الحاكم، خاصة في إطار تصفية الخصوم السياسيين وإرساء أسس الدولة الشمولية بعد هزيمة 1967 النكراء.
لن يخرج المنوال التونسي عن تاريخ المنوالات العربية نموذجا لإخضاع القضاء وتركيع سلطته وترهيب أهله لإزاحة آخر العراقيل أمام حكم الفرد المطلق. وليست المعركة في جوهرها معركة مع القضاة، بل هي معركة مع العدالة ومع استقلال السلطة القضائية وستكون حتما معركة خاسرة
كان مشروع عبد الناصر يهدف في العلن إلى صياغة مفهوم القاضي المندمج ضمن "البناء الاشتراكي الجديد"، أي أنّ العدالة صارت جزءا خاضعا للمنظور الأيديولوجي الذي يتبنّاه الحاكم عندما طُرحت "ضرورة ضمّ كل قوى الشعب العاملة" إلى "الاتحاد الاشتراكي 1962" بما فيها القضاة والجيش. كانت هذه واحدة من مشاريع إخضاع السلطة القضائية التي لم تكلل بالنجاح رغم عزل 189 قاضيا وتشديد محاصرة الآخرين.
لم يختلف مفهوم القذافي للسلطة القضائية عن المفهوم الشمولي الناصري؛ لأن القضاء كان في خدمة مشروع الجماهيرية وسلطة الشعب والكتاب الأخضر، وكذا كان المشروع البعثي في العراق وسوريا. كانت الأحكام تصدر بالموت والإعدام على المعارضين في الساحات العامة، حيث كانت تنصب المشانق في شهر رمضان في جماهيرية الشعب، وكذا كان صدام يصدر أحكامه بالخيانة على الرفاق في قاعة الخلد الشهيرة يوم 22 تموز/ يوليو 1979.
لن يخرج المنوال التونسي عن تاريخ المنوالات العربية نموذجا لإخضاع القضاء وتركيع سلطته وترهيب أهله لإزاحة آخر العراقيل أمام حكم الفرد المطلق. وليست المعركة في جوهرها معركة مع القضاة، بل هي معركة مع العدالة ومع استقلال السلطة القضائية وستكون حتما معركة خاسرة ككل معارك الطغاة مع الحرية والعدالة الاجتماعية؛ لأنّ التاريخ يأبى كسر مساراته، ولأن الشعوب الطامحة للعدل والحرية لا يمكن أن تستكين قبل أن تحقق حقها في التحرر والعدل.