روابط أسر المعتقلين: الكابوس الذي يؤرق الطغاة
استيقظ المهتمون فقط في مجتمع مهلهل، مساء 26 أيار/ مايو الماضي، على دعوة رابطة أسر معتقلي سجن العقرب للتدوين على هاشتاج #طمنونا_عليهم، ومطالبة النائب العام ووزير الداخلية بفتح الزيارة في السجن بعد أنباء عن عمليات تعذيب جماعية داخله. وبطبيعة الحال، لم يكن الاهتمام على مستوى المعاناة التي يلاقيها نزلاء السجن، ولا على مستوى الزمن الذي نعيش فيه.
يرزح المئات من السجناء منذ 2016 في صمت مطبق، في بطن مقبرة الأحياء بالعقرب بعيداً عن أي تواصل خارجي، بدعم من النائب العام والقضاء المسيس في واقعة نادراً ما تتكرر..
الكثيرون يتذكرون هؤلاء فقط حينما يُفتح باب السجن فجأة ليلفظ جثمان أحد الضحايا، كما حدث مع د. حمدي حسن، والنائب البرلماني هشام القاضي، ثم يغلق على ضحاياه مجدداً في انتظار ميلاد جديد لجثمان آخر، ينقذه الموت من فاشية مؤسسية محكمة تبرع -بدعم مباشر أو غير مباشر من الخارج- في استعمال كل أدوات القتل والانتهاك ضد معارضيها السلميين.
وقفت في
المقال الأول من هذه السلسلة على شرح أهمية عامل الضغط الخارجي من الجهات السياسية الغربية، سواء كانت حكومات أو برلمانات أو مجتمعا مدنيا تحت وقع ضغوط المنظمات الحقوقية
المصرية المستقلة الفعالة أو الدولية، كسبيل وطريق وحيد لأزمة المعتقلين السياسيين حالياً.
حققت تلك الحركات نجاحاً -بحسب خبراء الاجتماع السياسي- لكونها تشكلت من مواطنين "عاديين"، بالأدق "غير مسيسين"، هدفهم مصير أولادهم، ولا يرتبطون بمرجعية تأمرهم بالحركة أو التوقف
أما
المقال الثاني فتناولت فيه أهمية الحلول الأهلية والفردية، ومنها مسار المساومات والتهديدات، كأدوات متاحة لحلحلة ملفات الاعتقال، فيما لم يتبق لعشرات الآلاف من المعتقلين سوى روابط الأسر والأهالي -رغم خطورتها في بعض الحالات- في غيبة أي ضغط داخلي حقيقي وفعال، وهو محور المقال الثالث.
الخطورة التي قصدتها تكمن في أن السلطات القمعية كانت سبّاقة في الالتفات إلى أهمية الروابط، ودورها في طرح قضية المختفين قسرياً، وذلك حينما أوقفت في مطار القاهرة رئيس ومؤسس رابطة أسر المختفين قسرياً، المحامي إبراهيم متولي، أثناء مغادرته البلاد، في 13 أيلول/ سبتمبر 2017، ليظل في السجن حتى اللحظة، لكنه ربما ألهم الكثيرين.
وكان متولي في طريقه إلى جنيف للمشاركة في الدورة الـ113 للفريق المعني بحالات الاختفاء القسري في الأمم المتحدة، حينما تم إيقافه.
متولي أسس الرابطة في 2014 خلال مشوار البحث عن ابنه عمرو إبراهيم متولي، (22 سنة)، الطالب بكلية الهندسة، والذي اختفى قسريا عقب أحداث الحرس الجمهوري يوم 8 تموز/ يوليو 2013، ولا زال مفقوداً.
حققت تلك الحركات نجاحاً -بحسب خبراء الاجتماع السياسي- لكونها تشكلت من مواطنين "عاديين"، بالأدق "غير مسيسين"، هدفهم مصير أولادهم، ولا يرتبطون بمرجعية تأمرهم بالحركة أو التوقف.
وتبعاً للورقة البحثية التي قدمتها منظمة
كوميتي فور جستس تحت عنوان: "روابط وتجمعات ذوي الضحايا بمصر.. وكيف أصبحت جزءا فاعلا من الحراك السياسي الحقوقي؟"، ظهرت روابط أسر وعائلات المعتقلين، تقريباً في عام 2014، في مواجهة القوانين القمعية والملاحقات الأمنية، والعنف الممنهج، وإغلاق المجال العام، الذي أعقب انقلاب 2013، باعتبارها حراكاً غير صاخب، لكنه يحقق نتائج واقعية ملموسة في الضغط على النظام.
وارتبط ظهور الروابط بمنصات السوشيال ميديا التي كانت بمثابة الصوت المعبر عنها في ظل غياب الأصوات التقليدية، واستطاعت بدعم المنظمات الحقوقية المستقلة أن يصل صوتها إلى الخارج وأن تتواصل مع الهيئات الأممية المعنية.
وقد لمست بنفسي كيف تعاونت تلك الآليات مع المجموعة، حيث كانت كوميتي فور جستس معنية بتقديم الدعم الفني الحقوقي لها.
أثبتت التجربة أن صوتا واحدا من أصوات أهالي المعتقلين والمحبوسين أفضل من عشر أصوات من المنظمات الحقوقية، وأعتقد بأن هذا هو مكمن الخطر الذي لمسه النظام المصري، وعليه قرر القضاء على تلك المجموعة وترهيبها باعتقال مؤسسيها وترهيب أسرها
وأثبتت التجربة أن صوتا واحدا من أصوات أهالي المعتقلين والمحبوسين أفضل من عشر أصوات من المنظمات الحقوقية، وأعتقد بأن هذا هو مكمن الخطر الذي لمسه النظام المصري، وعليه قرر القضاء على تلك المجموعة وترهيبها باعتقال مؤسسيها وترهيب أسرها.
وبتتبع عمل وتحركات روابط وأهالي المعتقلين نجد أنه ما بين العام 2014 والعام 2018 ظهرت العديد من الروابط على السوشيال ميديا وكانت لها تحركات على الأرض ووقفات أمام المجلس القومي لحقوق الإنسان، وأمام نقابة الصحفيين وغيرها من الفعاليات التي كانت لها أهمية واضحة في رفع صوت وأسماء المعتقلين السياسيين.
وذهبت الدراسة إلى أن تلك الروابط -اللا حركة- مارست "فعلا" سياسيا في الوقت الذي صودرت فيه السياسة.. فعلاً ينتقل من الفردية والشخصية إلى التعددية والجماعية، في الفضاء الالكتروني، غايته وقف الظلم الواقع على ذويهم المعتقلين، وظهر التعاون المشترك بينها وبين المنظمات الحقوقية الموثوقة، في البيانات الصحفية والتقارير والدراسات البحثية، بالإضافة إلى
حملات الدعم والمناصرة.
والجدير بالذكر أن روابط أسر المعتقلين نجحت في سياقات غربية سابقاً، بشكل أكبر، وظلت تطارد الطغاة حتى بعد سقوطهم واندحارهم.
ففي 14 تموز/ يوليو 2001 احتل أهالي ضحايا
أوغستو بينوشيه بشكل رمزي، سفارة إسبانيا بسانتياغو، للمطالبة بمحاكمة الجنرال السابق الذي استفاد من تعليق محاكمته بسبب إصابته بمرض الخرف.
واعتقل بينوشيه في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1998 في لندن بتهمة ارتكاب جرائم ضد
حقوق الإنسان في تشيلي إبان فترة حكمه التي دامت 17 عاماً (1973 حتى 1990)، وتم تسليمه إلى إسبانيا لمحاكمته هناك.
اللافت في واقعة بينوشيه أن دعاة حقوق الإنسان لم ينتظروا سقوطه، بل شرعوا في رصد وتوثيق كل حالة من حالات التعذيب والقتل العمد و"الاختفاء" التي ارتكبتها قواته حتى وهو في الحكم، وأنجزوا توثيق ما يربو على 2000 حالة من
بين 3000 حالة قتل واختفاء.
وقد تميزت تسعينيات القرن الماضي -عموماً- بكونها حقبة حاسمة، لا سيما مع العمل الدؤوب لمنظمات حقوق الإنسان التي كانت ترفع شعار "
لا ننسى ولا نغفر" ('¡ni olvido, ni perdón!) وإصرارها على تحقيق العدالة.. وساعدت الشجاعة التي أبدتها أمهات "بلازا دي مايو" (ساحة مايو)، اللواتي تجمّعن في الشوارع منذ عام 1977، أي في أوج طغيان الديكتاتورية العسكرية التي حكمت الأرجنتين، للمطالبة بالحق في معرفة الحقيقة التي آل إليها مصير أبنائهن.
مع الإغلاق الكامل للفضاء والمجال العام، واحتكار الوسائل، والاعتقال على التغريد، والسجن على الرأي، وصرف الأعوام للأحرف، لا يوجد أي مصدر للمعلومات الموثقة حول الانتهاكات داخل مقار الاحتجاز، إلا من خلال الضحايا وذويهم، فهم يمثلون عماد الجهد الحقوقي الفعلي
لا بد من إعادة التذكير أنه مع الإغلاق الكامل للفضاء والمجال العام، واحتكار الوسائل، والاعتقال على التغريد، والسجن على الرأي، وصرف الأعوام للأحرف، لا يوجد أي مصدر للمعلومات الموثقة حول الانتهاكات داخل مقار الاحتجاز، إلا من خلال الضحايا وذويهم، فهم يمثلون عماد الجهد الحقوقي الفعلي.
الأهالي فقط تحركهم غريزة الانتصار لأبنائهم والزود عنهم، هم فقط يشعرون بمعاناتهم، والضغوط التي تضرب كاهلهم. لا يتاجرون بقضيتهم، ولا يتغنون في المطلق بثباتهم في سياق سقطت فيه الجماعات والتنظيمات ولم تنهض.. بينما يناور النظام باقتراحات تنتهي بلجان تنازع لجان، لتنتهي وعود الانفراجات مع السجناء في قاع مقبرة مثل العقرب، تحرسها الأجهزة الأمنية بغباء، تكتم أنفاسها وتستأصل صوتها.
لكن منذ العام 2018 نستطيع القول إن التحركات الفعلية لروابط وأهالي المعتقلين على الأرض باتت قليلة وضعيفة، بل كادت تكون منعدمة وذلك لعدة عوامل من أهمها:
1- عمليات البطش الممنهجة التي تمت في مواجهتهم.
2- هروب العديد من الأسر إلى الخارج، بعد أن كانت بمثابة الملهم للروابط والتجمعات الأسرية.
3- تحرك الأمن الممنهج لاعتقال المئات من محامي المعتقلين الذين كانوا بمثابة الداعم المباشر للأهالي والروابط.
4- اعتقال أهالي المعتقلين وذويهم الذين مارسوا أدواراً قيادية أو كانوا ملهِمين.
في غيبة البدائل الحقيقية، يجب أن يكون الشغل الشاغل لأي من الكيانات السياسية في الخارج أو الداخل، هو دعم روابط وأهالي المعتقلين، وتقديم ما يلزم من أجل إعادة إحياء عملهم واستعادة أدوارهم
5- وقف الدعم المقدم من قبل المنظمات الحقوقية المستقلة عن روابط وأهالي المعتقلين وعدم التفكير في المساعدة المستدامة لهم، ودعم حملات إلكترونية بدلا من دعمهم.
6- غياب ثقافة العمل الحقوقي عن روابط الأهالي، وعشوائية التحرك في العديد من الحالات.
7- تأثر روابط وأهالي المعتقلين بالانشقاقات التي طالت جماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي التمويل الذي كانت تقدمة الجماعة لأهالي المعتقلين، ما ساعدهم في تواصل حراكهم.
لكن في غيبة البدائل الحقيقية، يجب أن يكون الشغل الشاغل لأي من الكيانات السياسية في الخارج أو الداخل، هو دعم روابط وأهالي المعتقلين، وتقديم ما يلزم من أجل إعادة إحياء عملهم واستعادة أدوارهم، علماً أن الإصرار على مواجهة الفترة ما بعد 3 تموز/ يوليو 2013، أو العشرية السوداء، أو الحرب غير المقدسة التي خاضها النظام، وكشف الستار عنها وإدانتها، وتعرية وكنس وإزالة الأطراف المتورطة فيها، وإنصاف الضحايا، سيظل السبيل الوحيد لتجاوز مرارة الماضي وتحقيق الاندماج في عقد اجتماعي جديد.. هذا درس أمهات "بلازا دي مايو" الحقيقي.