يعيد مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف نشر رسائل علمية ترتبط بسجالات حالية، ومنها ورقة بحثية بعنوان "نشأة
الفقه الاجتهادي وأطواره"، وهي للشيخ "محمد علي السايس" أحد كبار علماء الأزهر الشريف، وقد انتقل إلى جوار ربه عام 1396هـ/ 1976م.
يقول السايس إن التشريع في الصَّدْر الأول لم يقم على فرض الحوادث، بل كان سائرا مع الواقع ومبنيا على أن المسلمين إذا عرض لهم أمر يقتضي بيان الحكم، رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيفتيهم تارة بما أنزل الله عليه من الكتاب وتارة بالحديث، وإذا كانوا بعيدين عن النبي فإنهم يجتهدون رأيهم. وقد أقرّ النبي فعل الاجتهاد وشجّع عليه، كما في الحديث الذي بعث فيه معاذ بن جبل إلى اليمن، وسأله عما يحكم به فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، فقال: "أجتهد رأيي ولا آلُو"، فحمد النبي ربه أن وفّق مبعوثه لوجه الصواب.
وينتقل الشيخ في كلامه إلى أن فقهاء الإسلام خلَّفوا لنا تراثا عظيما من الأحكام الشرعية التي كانت أثرا لاجتهادهم، وهي على نوعين؛ "الأول: أحكام ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ولا تختلف المصلحة فيها باختلاف الأحوال والأزمان، والثاني: أحكام جزئية روعيت فيها مصالح الناس وعُرْفهم في الوقت الذي استنبطت فيه".
"وإذا كانت المصالح تختلف باختلاف الظروف والأحوال، وكانت أعراف الناس مختلفة ومتبدلة، وجب أن نقول (الكلام للسايس) إن تلك الأحكام التي بُنيت على متطلبات عصر أو قضى بها عُرْف خاص لا يصح أن تؤخذ قانونا دائما، وشريعة ثابتة تُطبّق، حتى مع اختلاف وجه المصلحة وتغير العرف".
التشريع الإسلامي بمعنى سَنِّ الأحكام وإنشائها لم يكن إلا في حياة النبي ومنه فقط، ولم يفارق النبي الحياة إلا بعد أن تكامل بناء الشريعة، وما كان بعد وفاته مما ثبت باجتهاد الصحابة والتابعين فليس تشريعا على الحقيقة، وإنما هو توسيع في تبسيط القواعد الكلية وتطبيقها على الحوادث الجزئية المتجددة
والمفهوم بحسب هذا، أن التشريع الإسلامي بمعنى سَنِّ الأحكام وإنشائها لم يكن إلا في حياة النبي ومنه فقط، ولم يفارق النبي الحياة إلا بعد أن تكامل بناء الشريعة، وما كان بعد وفاته مما ثبت باجتهاد الصحابة والتابعين فليس تشريعا على الحقيقة، وإنما هو توسيع في تبسيط القواعد الكلية وتطبيقها على الحوادث الجزئية المتجددة.
وقد أراد النبي من تركه الاجتهاد للصحابة في حياته أن يعلمهم طريقة الاستنباط، ويمرنهم على كيفية أخذ الأحكام من أدلتها الكلية، ليستطيع أهل الفقه من بعده أن ينزلوا ما يجدّ من الحوادث على عمومات الكتاب والسنة، فضرب النبي لأمته من بعد المَثَل، ولذلك كانت الأحكام في كثير من الأحيان تأتي مقرونة بعِلَلِها متصلة ببيان السر فيها.
كما يُلحَظ أن الوحي كان يتأخر في بيان بعض الأحكام، وهذا لأجل أن يتعلّم الناس الاجتهاد، ثم يأتي الوحي بعد الحكم ليُقرّه أو ليمحوه. وهذه لمحة هامة من الشيخ رحمه الله، فأنت أمام تدريب إلهي للأمة، أيضا حثّ إلهي على الاجتهاد، وترك الخمول وإعمال العقل، فصاحب الشريعة يمنح الحق لأصحاب المَلَكة، ويفتح باب الاجتهاد لوارثي العلم.
أراد النبي من تركه الاجتهاد للصحابة في حياته أن يعلمهم طريقة الاستنباط، ويمرنهم على كيفية أخذ الأحكام من أدلتها الكلية، ليستطيع أهل الفقه من بعده أن ينزلوا ما يجدّ من الحوادث على عمومات الكتاب والسنة، فضرب النبي لأمته من بعد المَثَل
ويوضح الشيخ فارقا هاما، فيقول إن "الاجتهاد ليس على الحقيقة تشريعا (..) وأن غاية أمره أنه يشبه التشريع من قِبَل أن يظهر به حكم لم يكن جليا قبله، فليس إنشاء للحكم وإثباتا له ابتداءً، بل هو كشف عن حكم الله في الحادثة بالنسبة للمجتهد ومن يقلّده، ولعل هذا مراد من قال: "إن القياس مُظهِر للحُكْم لا مثبت له، وهذا سبيل كل مسالك الاجتهاد ومظاهره".
ثم عرض الشيخ لشكل الاجتهاد في عصر الراشدين، فكان الصِّديق إذا عرض له أمر، بحث في كتاب الله، فإن لم يجد بحث في سنة نبيه، فإن لم يجد سأل المسلمين عن المسألة إن كان النبي قد قضى في مثلها، فإن لم يجد جمع رؤوس الناس وخيارهم واستشارهم، ليقضي بما أجمعوا عليه. وكذلك كان يفعل عمر، لكنه كان يبحث عن قضاء أبي بكر قبل جمع الناس.
وكان الفاروق يوصي قضاته كما في كتابه إلى شريح القاضي: "إذا حضرك أمر لا بد منه فانظر في كتاب الله فاقْضِ به، فإن لم يكن ففيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن ففيما قضى به الصالحون وأئمة العدل، فإن لم يكن فإن شئت أن تجتهد برأيك فاجتهد، وإن شئت أن تؤامرني ولا أرى مؤامرتي إياي إلا خيرا لك". ويقصد سيدنا عمر بذلك أن المسألة قد يكون لديه علم بقضاء النبي أو خليفته فيها، أو قد يسأل الصحابة عنها فيخبرونه بما لم يبلغه من كلام النبي.
ويتابع الشيخ، أن كاتبا كتب لعمر في فُتْيَا: "هذا ما رأى الله ورأى عمر"، فقال عمر: "بئسما قلت، هذا ما رأى عمر، فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر". ثم نقل السايس عن الفاروق أنه قال بعدها: "يأيها الناس إن الرأي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصِيبا؛ لأن الله كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلّف. السنة ما سنَّه الله ورسوله، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة".
في مقابل هذا الأدب الرباني مع فقه وملكة لا تضاهى، تجد في زماننا من يريد أن يحمل الناس على رأي واحد باعتبار أنه حق، وترى حاكما يريد أن يحمل الناس على عدم جواز التطليق الشفهي وهو لا يعرف من الفقه وأحكامه شيئا، ويتابعه في ذلك من ينتسبون إلى العلم، ثم يحدّثك هؤلاء عن الاجتهاد والتجديد، فأي عبث ذاك؟!
وما نقله السايس عن سيدنا عمر نَصّ نفيس غاب عن أرباب التنظيمات والجماعات الدينية التي تقول هذا بلسانها، لكنها تنكر أشدَّ النكير على مخالفيها باعتبار أنهم أهل الصواب دون غيرهم، وأوهموا الناس أن فهمهم هو التشريع لا غير، لا أنه اجتهادهم، وللأسف أهل الفقه منهم قلة، فضلا عن وجود مجتهدين.
ثم نقل السايس عن سيدنا عمر أيضا -وهو خليفة- أنه لقي رجلا له قضية فسأله: "ماذا صنعت؟ فقال: قضى عليٌّ بكذا. قال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال الرجل: وما يمنعك والأمر إليك؟ فأجابه عمر: لو كنت أردُّك إلى كتاب الله، أو سنة رسوله لفعلت، ولكني أردّك إلى رأي، والرأي مشترك، ولست أدري أي الرأييْن أحقُّ عند الله".
وللقارئ أن يتخيّل أن هذا الكلام يصدر عن الفاروق الذي قال عنه النبي: "لو كان نبي بعدي لكان عمر"، وقال: "لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه إلا عمر"، وذلك لموافقة القرآن له في قضية الأسرى، وهو أحد أكبر الفقهاء في تاريخ الأمة، ورغم ذلك يقول وهو خليفة كلمته تلك. وفي مقابل هذا الأدب الرباني مع فقه وملكة لا تضاهى، تجد في زماننا من يريد أن يحمل الناس على رأي واحد باعتبار أنه حق، وترى حاكما يريد أن يحمل الناس على عدم جواز
التطليق الشفهي وهو لا يعرف من الفقه وأحكامه شيئا، ويتابعه في ذلك من ينتسبون إلى العلم، ثم يحدّثك هؤلاء عن الاجتهاد والتجديد، فأي عبث ذاك؟!
يتبع..
twitter.com/Sharifayman86