لم يتوقف الجدل
الدستوري في
تونس عن تصاعد حدّته منذ إقدام رئيس الجمهورية المنتخب على تفعيل الفصل الثمانين من دستور 2014، القاضي باللجوء إلى الإعلان عن حالة الاستثناء، التي أوشكت على إنهاء سنتها الأولى. والواقع أن الآلة الرئاسية ما انفكت منذ 25 تموز/ يوليو 2022 عن اتخاذ إجراءات تلوَ الأخرى لإكمال صورة النظام الجديد، كما رسمتها مؤسسة
الرئاسة وأشار إليها الرئيس المرشح خلال حملته الانتخابية، دون أن توليها النخب السياسية المتنافسة الأهمية اللازمة، ومن غير أن يُفصح الرئيس نفسه عن حقيقة أبعادها ومقاصدها، وإن كان موقفه واضحا حُيال طبيعة الأحزاب ونخبها، ونوعية الاختلالات التي طالت بنية الحياة السياسية التونسية منذ العام 2014.
يُذكر أن النظام الدستوري التونسي منذ الإعلان عنه في الوثيقة التأسيسية لعام 1959، تأرجح بين الطابع الرئاسي، حيث كرّس، على غرار دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة، أحكاما تُرجح مؤسسة الرئاسة على حساب السلطة التشريعية والحكومة. وقد استمر على هذا المنوال لسنوات، قبل أن يبدأ في الانعطاف نحو تضخيم سلطات رئيس الجمهورية نهاية عهد حكم "الحبيب بورقيبة"، وبشكل أقوى في المرحلة الثانية من ولاية "زين العابدين بن علي".
بيد أن التغيير الذي حدث في تونس سنة 2011، وأفضى إلى صياغة دستور 2014، سعى إلى إقامة توازن جديد بين المؤسسات الدستورية، من خلال التخفيف من سلطات الرئيس وتوسيع صلاحيات البرلمان والحكومة، بل إن الوثيقة الدستورية الجديدة (2014) نهلت العديد من العناصر من النظام البرلماني دون أن تضعف مظاهر النظام الرئاسي، وهو ما ساعد على خلق تفاعل سياسي داخل المؤسسة التشريعية، وما بين المؤسسات الدستورية الثلاث، أي التشريعية والتنفيذية بشقيها الرئاسي والحكومي.
في الحالة التونسية، يبدو أن ثمة استحضارا واضحا لروح "خطاب بايو" (Bayeux)، الذي ألقاه الجنرال ديغول عام 1946، ووجد تطبيقا لروحه في دستور الجمهورية الخامسة، حيث يحظى رئيس الجمهورية بمكانة سامية تعلو الأحزاب والمؤسسات، وتحكم الجميع ويحتكم إليها الكل
يُحدد "النظام الرئاسوي" (Présidentialiste) بأنه نمط مُحرف للنظام الرئاسي وتغيير سلبي لقواعده الجوهرية، كما تكونت وتواتر تطبيقها في تجارب النظم الرئاسية المقارنة. لذلك، تعتبر الجمهورية الخامسة الفرنسية، لا سيما خلال حكم مؤسسها "الجنرال ديغول" (1958- 1969)، أول تكريس لهذا النمط، قبل أن يستعيد النظام الفرنسي توازنه لاحقا. فالنظام الرئاسوي يسعى أنصاره إلى جعل مؤسسة الرئيس محور النظام الدستوري، والعمل على أن تكون المؤسسات الدستورية الأخرى توابع للرئيس من زاوية ميزان قوى النظام لتوزيع السلطة في الوثيقة الدستورية.
وفي الحالة التونسية، يبدو أن ثمة استحضارا واضحا لروح "خطاب بايو" (Bayeux)، الذي ألقاه الجنرال ديغول عام 1946، ووجد تطبيقا لروحه في دستور الجمهورية الخامسة، حيث يحظى رئيس الجمهورية بمكانة سامية تعلو الأحزاب والمؤسسات، وتحكم الجميع ويحتكم إليها الكل. غير أن الدرس المستخلص من النظام الرئاسوي، كما حرص مهندسه على تطبيقه بقوة، أفضى إلى استقالة الجنرال ديغول عام 1969 في أعقاب استفتاء على إصلاحات رئاسية رفضها الشعب، وفتح آفاقا جديدة نقلت البلاد نحو تغيير ثقافتها السياسية وسلوك فاعليها السياسيين والاجتماعيين.
يُنتظر أن يكتمل قوس الإصلاحات التي حملها الرئيس التونسي المنتخب، والتي حدد نهايتها بالاستفتاء المزمع إجراؤه حول الدستور الجديد في 25 تموز/ يوليو 2022.. فمنذ تشكيل الهيئة الوطنية الاستشارية لإعادة تعديل دستور 2014، وحتى تاريخ إدخال
التعديلين الأخيرين من قبل رئيس الجمهورية ونشر الوثيقة في الرائد الرسمي أو الجريدة الرسمية، اخترق المجتمع التونسي وطبقته السياسية نقاش حاد حول مستقبل تونس في ضوء ما ستؤول إليه إصلاحات الرئيس، وإصراره على إعادة تأسيس نظام دستوري جديد في تونس.
هل ينتصر التونسيون لما يخدم مصلحة بلادهم، ويقوي لحمتهم الوطنية، ويجنبهم مخاطر الانزلاق نحو المجهول؟.. كل الأبواب مفتوحة، والاحتمالات ممكنة، لكن المطلوب تغليب العقل ومنطق الواقعية وفعل الممكن، لأن السياسة أولا وأخيرا تدبير الممكن.
ويمكن للمتابع للشأن التونسي وتطور نقاشات أطرافه السياسية والاجتماعية، أن يلحظ وجود انقسام داخل المجتمع التونسي، بين
رافض ومعارض لهذه الإصلاحات والأبعاد التي تروم الوصول إليها، وبين من يدعم خطوات الرئيس وسعيه إلى إقامة أسس جديدة للجمهورية الثانية. فهل ينتصر التونسيون لما يخدم مصلحة بلادهم، ويقوي لحمتهم الوطنية، ويجنبهم مخاطر الانزلاق نحو المجهول؟.. كل الأبواب مفتوحة، والاحتمالات ممكنة، لكن المطلوب تغليب العقل ومنطق الواقعية وفعل الممكن، لأن السياسة أولا وأخيرا تدبير الممكن.
يُجمع الفقه الدستوري وخبرات التجارب الديمقراطية الناجحة في العالم، على أن الدستور بحسبه تعاقدا سياسيا واجتماعيا، يستلزم الحوار المفتوح على كل مكونات المجتمع وحساسياته، ويقتضي إشراكها في بناء الوثيقة الدستورية، ويشترط التوافق على الأحكام والمقتضيات الناظمة للفلسفة الدستورية للوثيقة. وتثبت دروس هذه التجارب أن الدساتير الديمقراطية لا تُصاغ بإرادة منفردة، كما لا تُختم بمراسيم وقرارات، بل بالتعبير عن
الإرادات الحرة للمواطنين، كل المواطنين، ومن ينوب عنهم في التمثيل والوساطة. ودون تحقق هذه المتطلبات والشروط لن تفي الدساتير بأغراضها مهما كانت حبكة إعدادها وصياغتها، لأنها في النهاية من فعل الإنسان ومن أجل الإنسان، وكل ما له علاقة بالإنسان يحتاج إلى مشاركة وحوار وإعقال.