هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت مجلة فورين أفيرز الأمريكية تقريرًا تحدثت فيه عن إيران التي يمكن أن تكون الخاسر الحقيقي في الصراع بين الشيعة في العراق.
وقالت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر أعلن في 29 آب / أغسطس أنه سينسحب من السياسة بعد أشهر من المحاولات الفاشلة لتشكيل حكومة جديدة، فيما خرج الآلاف من أنصار الزعيم الوطني - الذي ظهر كمعارض قوي للميليشيات المدعومة من قبل إيران في العراق - إلى الشوارع في حالة من الغضب، واشتبكوا مع قوات الأمن العراقية، وخرقوا الحواجز الخرسانية حول المنطقة الخضراء في بغداد واقتحموا مقر الحكومة.
وبعد مقتل العشرات من الأشخاص؛ ظهر الصدر على شاشة التلفزيون وأصدر تعليماته لمؤيديه بالعودة إلى ديارهم، في محاولة منه لتخفيف الأزمة السياسية التي عرقلت تقدم حكومة تصريف الأعمال في العراق لعدة أشهر.
وأوضحت المجلة أن النظام السياسي العراقي وصل إلى طريق مسدود منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عندما أجرت البلاد انتخاباتها البرلمانية الخامسة منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة سنة 2003، وفاز تحالف الصدر بأكبر عدد من المقاعد، لكن لم تنجح كتلته ولا أي حزب آخر في تشكيل حكومةٍ، لم ينشب الصراع بين الطوائف أو الجماعات العرقية المتنافسة ولكن داخل أكبر مجموعة طائفية في العراق، الشيعة، الذين باتوا يعانون من انقسامات عميقة بشأن علاقة بلادهم بإيران. أما الصدريون، الذين كان زعيمهم في يوم من الأيام الحليف الوثيق لطهران، يجادلون بأن بغداد يجب أن تنأى بنفسها عن جميع القوى الأجنبية بما في ذلك إيران.
على الرغم من أن الصدر يدعي أنه تقاعد من السياسة، فمن المرجح أنه يعمل على الاستفادة من هذه الدورة الأخيرة من سياسة حافة الهاوية واحتجاجات الشوارع للتغلب على منافسيه. وتجدر الإشارة إلى أن الصدر أصدر تصريحات مماثلة في الماضي لكنه لم ينسحب قط من المجال السياسي؛ حيث يسعى إلى ترسيخ نفسه كوسيط شيعي في العراق والهيمنة على نظام تقاسم السلطة الطائفي الذي كان قائمًا منذ فترة بعد أن أطاحت الولايات المتحدة بنظام الرئيس العراقي صدام حسين البعثي.
وتابعت الصحيفة قائلة إنه رغم أن الصدر قد كرّس أجندته السياسية لمكافحة الطبقة السياسية الفاسدة التي تدين بالفضل لإيران والقوى الأجنبية الأخرى، فإن مناورته تشكل خطرًا آخر على الدولة العراقية الهشة، ولكن بصفته وريثًا لإحدى العائلات الدينية الشيعية الأكثر شهرة في العالم، فقد أثبت الصدر مهارته بشكل ملحوظ في تحويل نسبه الديني إلى قوة صلبة. لهذا السبب، يجب أن يفكر خصومه مرتين قبل أن يستبعدوه.
اقرأ أيضا: هل تخلى حلفاء الصدر عنه بعد تأييدهم تشكيل حكومة بالعراق؟
الدين والعراق
ونوهت المجلة إلى أن الصدر يجسد نوعًا قوميًّا ومتمردًا من الشيعة في العراق، فبينما أن آية الله العظمى علي السيستاني، رجل الدين الأكثر احترامًا في البلاد، وعلماء الدين الشيعة الآخرين يتجنبون المشاركة في السياسة بشكل مباشر، استغل الصدر ذلك الفراغ لخدمة مصالحه على مدى عقدين من الزمن، ثم أصبح الصدر أحد أكثر أعداء واشنطن إثارة للجدل في العراق؛ حيث قاتلت ميليشياته، جيش المهدي، ضد القوات الأمريكية لسنوات، وقتلت مئات الجنود الأمريكيين.
وذكرت المجلة أن الصدر سعى منذ البداية إلى الجمع بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، على الرغم من امتلاكه لمؤهلات دينية محدودة، فكان قادرًا على إصدار فتاوى دينية أو أن يكون مرجعًا للشيعة. ولكن باعتباره الابن الوحيد الباقي لآية الله العظمى محمد صادق الصدر، وهو عالم شيعي بارز تحدى النظام البعثي حتى اغتياله في سنة 1999، تمكن الصدر الأصغر من أن يسير على خطى والده كزعيم سياسي للتيار الصدري.
ولفتت المجلة إلى أنه منذ الغزو الأمريكي؛ كان الصدر الزعيم العراقي الأكثر مهارة في التنقل بين السياسة والسلطة الدينية، وهي حقيقة يمكن أن تفسر مناورته الأخيرة، فقد استمرت الأزمة السياسية في العراق قرابة 11 شهرًا. ومع ذلك؛ لم ينظم الصدر احتجاجات دموية في الشوارع حتى واجه تهديدًا لشرعيته الدينية، فقبل يوم واحد من إعلان الصدر عن تقاعده من السياسة، أعلن آية الله العظمى كاظم الحائري، رجل الدين العراقي المسن المقيم في إيران والذي كان بمثابة مرشد روحي لكثير من أعضاء التيار الصدري، عن تنحيه بسبب تدهور صحته. ولكن بدلًا من دعوة أتباعه إلى نقل ولائهم لرجل دين شيعي عراقي آخر نصحهم الحائري باتباع المرشد الأعلى لإيران، آية الله علي خامنئي.
وقالت المجلة إن خطوة الحائري كانت فريدة من نوعها، حيث إن معظم آيات الله العظمى يأمرون أتباعهم باتباع كبار رجال الدين الآخرين فقط بعد وفاة رجال الدين. وعادة ما تمتلئ تصريحات آيات الله العظمى بالادعاءات والتفاهات الدينية، في حين أن تصريحات الحائري كانت تنتقد الصدر ضمنيًّا. وقال الحائري من دون أن يذكر اسمه بشكل واضح إن الصدر خاطر بتمزيق العراق والأغلبية الشيعية، كما أشار إلى أن الصدر يفتقر إلى المؤهلات اللازمة للقيادة الدينية وتحدى مكانة رجل الدين الأصغر باعتباره وريثًا لإرث عائلته، وفي خطابه الذي دعا فيه إلى إنهاء التظاهرات الأخيرة؛ زعم الصدر أن المسؤولين الإيرانيين وخصومه الشيعة المدعومين من إيران كانوا وراء انتقادات الحائري.
وبحسب المجلة يعكس هذا الطعن بالظهر فراغ السلطة المتنامي داخل المجتمع الشيعي في العراق، وهو فراغ انفتح مع تضاؤل النفوذ الإيراني في البلاد، فقد كان خليفة سليماني أقل نجاحًا في منع الفصائل الشيعية في العراق - وخاصة الصدريين - من تحدي طهران، وعلى الرغم من أن الصدر صور نفسه على أنه قومي عراقي يسعى إلى القضاء على التدخل الأجنبي، إلا أنه عاش في قم، مركز الدراسات الشيعية في إيران، خلال فترة الحرب الأهلية في العراق وكان حليفًا لطهران، لكن سخط إيران منه تنامى بسبب عدم رغبة الصدر في العمل مع حلفائهم العراقيين، ومن المرجح أنهم حاولوا الضغط على الصدر من خلال إقناع الحائري بالتشكيك في شرعيته الدينية.
اقرأ أيضا: هل يحلّ برلمان العراق نفسه بعد قرار المحكمة الاتحادية؟
إلى المنتصر تذهب الغنائم
ووفق المجلة؛ تنبع الأزمة السياسية الحالية في العراق من فشل الصدر في تشكيل حكومة بعد فوزه بأكبر حصة من المقاعد في برلمان البلاد. ومن الناحية التاريخية؛ اندمجت الفصائل الشيعية العراقية بعد الانتخابات - غالبًا بمساعدة إيران - لتشكيل كتلة كبيرة وتقسيم الوزارات الحكومية العليا، مما أجبر الحزبين السني والكردي في النهاية على الموافقة، إلا أن الصدر حاول تشكيل حكومة ائتلافية مع الفصائل السنية والكردية واستبعاد خصومه الشيعة بدعم من 73 نائبا فقط. ولو نجح؛ لادعى أنصاره أنه قلب نظام تقاسم السلطة العرقي الطائفي الذي لا يحظى بشعبية كبيرة - نظام المحاصصة - والذي فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد الغزو، لكن الصدر يحاول في الواقع ترسيخ هذا النظام ويضعه تحت سيطرته لا أن يدمره.
وتشير المجلة إلى أن الصدر يعزف بشكل خاص عن التحالف مع نوري المالكي، والذي حققت كتلته ثاني أعلى نسبة بين الفصائل الشيعية بعد الصدريين. وكان المالكي، الذي شغل منصب رئيس الوزراء من 2006 إلى 2014، مسؤولًا عن العديد من السياسات الكارثية التي عزلت السنة، وأضعفت قوات الأمن العراقية، وسمحت لتنظيم الدولة بالسيطرة على ما يقرب من ثلث البلاد. لكن خصومة الصدر مع رئيس الوزراء السابق لا تتعلق فقط بسجل المالكي؛ إنه أمر شخصي: ففي عام 2008، أمر المالكي قوات الأمن العراقية بمحاربة ميليشيات الصدر في جنوب العراق بدعم من المسؤولين الأمريكيين، ولم يغفر رجل الدين للمالكي أبدًا لإلحاقه الضرر بحركته في ذروة الحرب الأهلية في العراق.
وتكشف المجلة عن أن نظام المحاصصة لتوزيع الغنائم تم تصميمه على غرار المخطط اللبناني المختل وظيفيًّا، والذي سعى لضمان حقوق الأقليات الدينية ولكن انتهى به الأمر إلى خلق فساد مستشر وعدم استقرار سياسي وانهيار اقتصادي. وبموجب مخطط العراق، يجب أن يكون رئيس الوزراء شيعيًا، ورئيس البرلمان سنيًا، والرئيس كرديًّا، ويمتد النظام عبر معظم طبقات الحكومة والخدمة المدنية. بعد كل انتخابات برلمانية، تقسم الأحزاب الطائفية الوزارات، مما يتسبب في تأخيرات طويلة في تشكيل الحكومة. ونتيجة لذلك؛ تضاعف عدد العاملين في القطاع العام في العراق ثلاث مرات منذ عام 2004، وتدفع الحكومة الآن رواتب أكثر بنسبة 400 في المئة مما كانت تدفعه في ذلك الوقت.
وتفيد المجلة بأن معظم الأحزاب والفصائل العراقية التي وصلت إلى السلطة بعد عام 2003؛ تستفيد من نظام تقاسم الغنائم هذا وتتردد في التخلي عنه، حتى وهو يدفع بلدهم الغني بالنفط نحو الخراب المالي ويفشل في توفير الكهرباء والمياه النظيفة والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات الأساسية للشعب العراقي. والحقيقة هي أن حركة الصدر وحلفاءها مستفيدون من النظام الحالي، على الرغم من بذل رجل الدين قصارى جهده لتصوير نفسه على أنه مصلح. إلا أن الإصلاح الدراماتيكي لا يصب في مصالحه، ولهذا السبب لا يسعى إلى إلغاء خطة تقاسم السلطة بل يفضل تنصيب نفسه على رأسها.
اقرأ أيضا: "قضاء العراق" يدعو للنظر في صياغة مواد بالدستور.. ما هي؟
سقط ولكن لم يتم إقصاؤه
واستعرضت المجلة مسار الأحداث بعد انتخابات العام الماضي؛ حيث حاول الصدر ترسيخ سيطرته على النظام بعد الانتخابات، ولكنه ربما يكون - وفقًا للمجلة - قد بالغ في ثقته بمركزه؛ فبعد شهور من المفاوضات مع الحزبين السني والأكراد، جمع الصدريون أغلبية برلمانية كانت ستتمكن من انتخاب رئيس، لكن في شباط/ فبراير، قضت المحكمة العليا العراقية، والتي عينت الفصائل الشيعية الموالية لإيران قضاتها، بضرورة اجتماع المجلس التشريعي بأغلبية الثلثين على الأقل لانتخاب رئيس، على عكس الأغلبية البسيطة في السنوات السابقة، مما أدى لمقاطعة الفصائل الشيعية التي تعارض الصدر للجلسة البرلمانية، وحرمته من الأغلبية الساحقة اللازمة لإجراء التصويت.
وتابعت المجلة قائلة؛ حاول الصدر إبعاد بعض الفصائل الشيعية المتنافسة من خلال تمكينهم في وزارات مختلفة، لكنه رفض التفاوض مع المالكي. في حزيران/ يونيو، سحب مرشح الصدر لرئاسة الوزراء، جعفر الصدر، السفير العراقي الحالي لدى المملكة المتحدة، ترشيحه. ثم أمر الصدر نوابه البالغ عددهم 73 نائبا بالاستقالة من البرلمان بشكل جماعي، على أمل إجبار منافسيه على رفع مقاطعتهم واستئناف المجلس.
وأوضحت المجلة أن مقامرة الصدر جاءت بنتائج عكسية؛ حيث تحرك خصومه الشيعة بسرعة لملء المقاعد، والتي بموجب القانون تذهب إلى الوصيف في كل منطقة عندما يستقيل الفائز. ومع حصول منافسيه على أغلبية برلمانية جديدة، خشي الصدر من استبعاده من حكومة يمكن أن تبقى في السلطة لمدة ثلاثة أعوام. في تموز/ يوليو، جاء رده في صورة حث لأتباعه على اقتحام المنطقة الخضراء وحصار البرلمان بالاعتصام احتجاجًا على منع التصويت على رئيس وحكومة جديدين.
وانتهى حصار الصدريين للبرلمان في 30 آب/ أغسطس، بعد أن أمر الصدر أنصاره بإخلاء الشوارع لتفادي المزيد من العنف، وفي رد فعله على التحدي الديني الذي يواجهه الحائري، ربما يكون الصدر قد أخطأ في التقدير من خلال التحريض على احتجاجات عنيفة دون خطة واضحة لكسر الجمود السياسي في العراق. إلا أن الصدر لديه طريقة للتعافي من الانتكاسات السياسية والعودة بقوة أكبر، فعلى الرغم من سمعته كزعيم شديد وغير متسق، فقد لعب الصدر لعبة طويلة، صمدت أكثر من الاحتلال الأمريكي وبعض الأعضاء القدامى في التسلسل الهرمي الديني في النجف. لقد بنى حركة اجتماعية وسياسية هائلة يمكنها إيصال الأصوات والاستفادة من نظام المحاباة العراقي الفاسد. ولسنوات؛ أظهر الصدر مهارة سياسية أكبر مما منحته الولايات المتحدة وخصومه العراقيون الفضل وتفوق عليهم باستمرار.
واختتمت المجلة تقريرها بأنه حتى الآن؛ فشل الصدر في حملته لاحتواء نفوذ إيران، وإضعاف الفصائل الشيعية الأخرى في العراق، وممارسة السيطرة على نظام تقاسم السلطة في البلاد، متسائلة عما إذا كان خصوم الصدر سيحاولون استبعاده من الحكومة بالكامل - ويخاطرون بالتسبب في حلقة جديدة من إراقة الدماء - أو محاولة التوصل إلى حل وسط وبالتالي تأخير طموحه الكبير في أن يصبح أقوى زعيم شيعي في العراق؟!