(إهداء)
لم تغب صورته عن ذهني وأنا
أكتب هذا المقال، أتألم كل لحظة لحاله ولمواجع الحنين التي تفسد نومه وصحوه، كما
تألمت لمرضه ورحيله غريبا، وأتألم طول الوقت وأنا أتابع مشاكله مع العمل وأسئلة
المعيشة اليومية ونقص
الحرية المشتهاة في بلاد خرج منها ولم تخرج منه..
هذا "الإنسان/ الألم"
له أسماء كثيرة، قد يكون محمد كمال، وقد يكون محمد الجبة، وقد يكون سيف عبد
الفتاح، قد يكون "بشير" وقد يكون "منذر"..
إليهم جميعا أدعو الله أن
ينعم عليهم في القريب بعودة كريمة تزيد ولا تنتقص.
(1)
قرأت عن
مبادرة مصرية من أجل
"عودة الهاربين"، وتعبير "الهاربين" هو الاختراع الذي طارد به
الإعلام
المصري عشرات الآلاف من المعارضين الذين خرجوا من مصر لأسباب كثيرة لا
داعي لذكرها (لأنها مفهومة ومعروفة)، لكن المبادرة التي تم إطلاقها (بموافقة أمنية
مسبقة) حاولت التفريق بين نوعين من الهاربين؛ النوع الذي تشمله المبادرة يخص
"اللي مش إخوان بس بيحترموهم"، بشرط عدم تورطهم في أي عنف وعدم صدور
أحكام ضدهم في قضايا إرهابية.
المبادرة التي تم إطلاقها (بموافقة أمنية مسبقة) حاولت التفريق بين نوعين من الهاربين؛ النوع الذي تشمله المبادرة يخص "اللي مش إخوان بس بيحترموهم"، بشرط عدم تورطهم في أي عنف وعدم صدور أحكام ضدهم في قضايا إرهابية
والصيغة المفضلة
و"المفلترة" المشمولة بالدعوة يمكن تجسيدها في نموذج سابق لعائدين مروا
عبر ترتيبات "البوابة الأمنية". ولمزيد من فهم هذه الفئة يمكن أن نضعها
تحت عنوان كودي هو "رامي جان": قبطي عارض النظام وخرج واقترب من دوائر
الإخوان السياسية والإعلامية، وعندما حانت لحظة الافتراق بعد تعب الغربة والفراق
كان "الحضن الأمني" جاهزا للاحتواء؛ بشرط دفع فاتورة بسيطة تتمثل في
الاستخدام الإعلامي لتشويه "الجماعة الضالة" الذي عاش معها وعرف أسرارها
وخباياها "المخجلة"، والخلطة معروفة طبعا: تمويل وعمالة وانتهازية
وفضائح أخلاقية وجنسية وأي حاجة في ساندويتش، المهم أن العائد التائب يظهر مع عمرو
أديب وإخوته ليقول عن الهاربين الآخرين ما قاله مالك في الخمر.
(2)
قرأت أيضا أن وائل غنيم أعلن
عن سعادته بوصوله إلى القاهرة وزيارة الأسرة، بعد أشهر من الإفراج عن شقيقه (لم
يكن من الهاربين ولم يرتكب أي جريمة غير أنه شقيق وائل)، وكان غنيم فرحان خالص
لأنه دخل من المطار إلى بيت العائلة بدون أي مشاكل. وقد سبقه الباحث
عمرو حمزاوي
في الترتيبات والظهور على الشاشات، والاستخدام المتفق عليه (والمفهوم بطبيعة
الحال) في تنظيف "حظيرة السلطة"، ثم وضع لافتة لطيفة عليها تحمل اسم
"قاعة الحوار الوطني".
ولأنني لا أحب أن أحكي الآن
ما حدث معي شخصيا بعد قرار
عودتي إلى القاهرة بدون ترتيبات مسبقة، يكفي أن أشير
إلى حالات أخرى كثيرة تم اصطيادها من المطار (برغم عدم وجودها في قوائم ترقب معلنة
أو اتهامها بأي جرائم من قبل). وتسعفني ذاكرتي الآن باسم الناشط الحقوقي باتريك
جورج القادم من إيطاليا (حيث يدرس) لزيارة عائلته في مصر العزيزة!
(3)
كلمات حمزاوي وغنيم وقبلهما
(وبعدهما) كثيرين؛ عن الأمن والأمان وكرم السلطة المضيافة والإشادة بالإنجازات
الملموسة والتحديث الذي صارت عليه مصر في المباني والطرق ومكافحة الفساد، كلمات
ذكرتني بما دونه أشهر هارب سياسي في تاريخ مصر وهو "سنوحي"، فما هي
حكاية سنوحي؟ وما قصة هروبه وعودته؟ وما هو المغزى المستفاد من ذكرها في مقال عن
مبادرة جديدة تطالب "سنوحي المعاصر" بالعودة إلى بلده المحروسة والتمتع
بخير وسماحة وكرم الملك الفرعون حفظه الله؟..
تعالوا نقرأ، لعل الحكايات
تنعش الذكريات وتنبهنا بما هو آت:
(قصة سنوحي القديم)
لا تفكر كثيرا هل كان سنوحي
شخصا حقيقيا أم مجرد شخصية أدبية انتحلها كاتب قديم في زمن الملك امنمحات، فالقصة
مدونة على البرديات والحجر الجيري ومنسوخة في أكثر من عصر، وتحكي عن رجل من رجال
البلاط اسمه سنوحي خرج في حملة عسكرية لمحاربة الليبيين تحت قيادة سنوسرت، نجل
الملك وولي عهده، وفي طريق
العودة بعد الانتصار وصلت رسالة إلى ولي العهد تخبره
باغتيال الملك الأب، فيقرر العودة فجأة تاركا جيشه من أجل السيطرة على الأوضاع
التي تقترب من الفوضى والنزاع على العرش، ولما سمع سنوحي قصة اغتيال الملك شعر
بخوف شديد ورعدة وقرر الهروب (من دون ذكر أسباب واضحة في القصة)، حيث ذهبت
التفسيرات إلى أنه خشي من بطش سنوسرت لأنه
كان ضد توليته العرش وبينهما خصومات، وقيل أيضا لأنه تورط في مؤامرة اغتيال الملك
امنمحات، وقيل أيضا إنه هرب خوفا من غموض المستقبل وتيار الدم الذي سيراق نتيجة
للصراع على العرش..
اتجه سنوحي نحو فلسطين وقضى
سنوات متجولا في منطقة الشام حتى استضافه أحد الحكام الإقليميين وزوّجه ابنته،
بعد أن رأى شجاعته وانتفع بعلمه وخبرته كطبيب، لكن سنوحي الذي فر بجسده من مصر،
شعر أنه ترك روحه هناك على ضفاف النيل، وبدأ يعاني من حرارة الحنين:
"ألا أيها الإله، أيا
كنت، يا من قدّرت عليّ هذا الفرار، أعِدْني إلى البيت، واسمح لي أن أرى الموضع
الذي يقيم فيه قلبي، فليس هناك أعظم من أن تدفن جثتي في الأرض التي ولدت فيها.
أيها الإله أعنّي على أمري، واكتب لي الخير، وارحمني".
وبالفعل عاد سنوحي، أيضا ظلت
التفاصيل غامضة ومحل تفسيرات مختلفة، بعضها يتعلق بمراسلة الملك وطلب الصفح،
وبعضها يتعلق بإرسال معلومة استخباراتية مهمة عن تجهيز الأعداء لحملة بسيوف من
الحديد، بينما كانت سيوف مصر من الخشب ومعادن أكثر ليونة من الحديد كالنحاس، مما
نبه الملك لإعادة تسليح الجيش.
هذه بعض التفسيرات، أما ما
ورد في النص على لسان سنوحي فيقول فيه:
"لما عدت استقبلني الملك
بترحاب، وتعجب من تغير مظهري كأنني أصبحت واحدا من الآسيويين، وأمر بإقامتي في بيت
أحد أبنائه، حيث يوجد حمام جميل وأفخر الأثاث، وأحضروا لي أنعم الملابس الكتانية
وعطّروا جسمي بأحسن الزيوت".
(المفارقة المحيرة)
يحكي سنوحي أنه كان "خادما"
للملك امنمحات الأول، كما يسترسل في مدح الملك الجديد وعظمته، حتى أنه أمر ببناء
مقبرة فخمة له، وشمله بنعمة الكرم الملكي حتى وفاته. وفكرة "الخدمة" ظلت
مفهوما موروثا انتقل من بلاط الملوك الآلهة في العصور القديمة إلى قصور السلطة
الحديثة ومفردات الخدمة في الجيش أو دواوين البيروقراطية..
وقد توقفت عند "المفارقة
المحيرة" بين قرار سنوحي بالهروب خوفا وبين أوصاف المديح التي أسبغها على
الملك الجديد، وسألت نفسي: هل أنتجت الغربة الممزوجة بالحنين تغيرا في موقف سنوحي
من الملك الذي خاف من بطشه، وأقته نفسه بأنه
"ملك صالح وكريم" على طريقة المصابين بمتلازمة استوكهولم؟.. بصياغة
عصرية: هل هناك ثمن للعودة لا بد من دفعه؛ يتمثل في تغير الموقف ومديح الملك وإعلان
المديح على شاشة أو بردية؟ وهل هناك علاقة بين "الكرم الملكي ونعمة
الاستضافة" وبين "فقدان الحرية والحديث عن المواقف القديمة التي أدت إلى
الهروب في البدء؟
سافرت تمسكا بحريتي وتحررا من التضييق، سافرت حتى لا يتم مصادرة رأيي وكتم صوتي، وعدت لأمارس ذلك من بلدي. لكن أحلامي في الحديث بحرية من قلب القاهرة انتهت سريعا، فلم يشملني الكرم الملكي ولم أجد بردية في البلاد أكتب عليها كلماتي، لأن الملك يقيد كل الكلام وكل الظهور وكل المشاركة
(خروج وعودة)
سألني أحد الضباط أثناء
توقيفي في مطار القاهرة: رجعت ليه؟
قلت له: ده الطبيعي أنا راجع
بلدي.. السؤال الصحيح هو: سافرت ليه؟
لقد سافرت تمسكا بحريتي
وتحررا من التضييق، سافرت حتى لا يتم مصادرة رأيي وكتم صوتي، وعدت لأمارس ذلك من
بلدي. لكن أحلامي في الحديث بحرية من قلب القاهرة انتهت سريعا، فلم يشملني الكرم
الملكي ولم أجد بردية في البلاد أكتب عليها كلماتي، لأن الملك يقيد كل الكلام وكل
الظهور وكل المشاركة. أنفاسك معدودة وخطواتك مرسومة وكل شيء مشروط مسبقا بالتنازل
عن حريتك في إبداء رأيك، فهم لديهم الآراء، وما عليك إلا أن تعلنها بلسانك، وأنا
لم أرغب في تأجير لساني لأحد حتى لو كان الملك..
كانت في ذاكرتي من أيام
الدراسة أسئلة كثيرة عن حكاية سنوحي، وفتشت كثيرا عن قصة قديمة لنجيب محفوظ بعنوان
"عودة سنوحي" فلم أجدها، فالقصة لم تنشر في أعماله الكاملة ولم يتضمنها
كتاب عربي، لكنه نشرها في مطلع الأربعينات في مجلة "الثقافة" التي كان
يصدرها أحمد أمين. وفتشت عن العدد الذي صدر في صيف 1941 فلم أجده، حتى عثرت على نص
مترجم للقصة في كتاب بالإنجليزية (أصوات من عالم آخر) للمترجم ريموند ستوك.
ولما قرأت القصة وجدت أن
محفوظ لم يكن مقتنعا بدوافع الهروب والعودة كما وردت في قصة الكاتب القديم،
فاستحدث عقدة عاطفية من المثلث الفرنسي الشهير "رجلان وامرأة"، حيث تخيل
أن سنوحي هو الأخ الأصغر لسنوسرت، وأنهما كان يهيمان في حب أميرة واحدة ويتنافسان
في ذلك (يمكنك حذف الأميرة ووضع العرش مكانها)، ولما اغتيل الأب شعر الابن الأصغر
(سنوحي) أن شقيقه على علاقة بذلك وأنه لا يتوانى عن القتل في سبيل الحصول على
هدفه، فأصابه الخوف وهرب.
وبعد أربعين سنة عاد، لأن كل
شيء كان قد تغير، ولم تعد قصة الهروب وأسبابها مطروحة، وبالتالي لم يعد للعودة
قيمة أو خطورة سياسية، فالعائد يرغب في مقبرة أكثر
من أي شيء دنيوي، وهو الأمر الذي يحبذه الملك الحاكم، لأن مثل هذه العودة تدعم
العرش ولا تهدده.
وهذا يعني أن العائد لا بد أن
يتخلص من هرمونات المعارضة ويتحول إلى كائن أليف، يمكن استضافته في القصر وتوظيفه
في مؤتمرات الشباب وجلسات الحوار الوطني المتوهم ليفيض بالحديث عن كرم الملك
وغفرانه، لأنه قص له شعره ومنحه الملابس والعطور، فصار العائد اللطيف مثل علي بابا:
"بعد الضنا لابس حرير في حرير، دفع ديونه واشترالو قصر عالي كبير، والست
مرجانة من يومها نشوانة والرقص طول الليل..".
(خلاصة)
لست واقعيا بما يكفي، لكن
رومانسيتي ليست بلهاء، لذلك لا أستطيع أن أدير ظهري لمواجع الحنين عند الغرباء،
ولا أستطيع التعالي على دعوة تغازل الغريب بالعودة إلى الديار، لكن سؤالي يركز على
معرفة الثمن: ما هو المقابل للعودة؟ عودة من أجل الحياة أم عودة لجثة تنشد مقبرة؟
إنني عندما اتخذت قراري بالعودة كان لنفس الأسباب التي اتخذت بها قراري بالخروج: من أجل قوة كلماتي ومنابر التعبير، وعندما لا أجد ما أبحث عنه "أُغيّر المواقع ولا أُغيّر المواقف"
وبلا مواربة أقول إنني عندما
اتخذت قراري بالعودة كان لنفس الأسباب التي اتخذت بها قراري بالخروج: من أجل قوة
كلماتي ومنابر التعبير، وعندما لا أجد ما أبحث عنه "أُغيّر المواقع ولا
أُغيّر المواقف". وكثيرون يعرفون أنني عندما عدت، لا سألني يسار ولا يمين ولا اتصل
عسل ولا بصل، وهذا يعجبني لأنه تجسيد لما أريده لنفسي من استقلالية وعدم تصنيف
حزبي أو "شللي"، لكن دائما هناك من يتصل ويسأل ويهتم بأحوالي، وهم أحباء
أصفياء أعتز بهم، ومواطنون بسطاء مأزومون عاديون مثلي، وهذا يكفيني ويغمرني بالرضا
والنعمة وحمد الله وشكر الأوفياء.
وفيما عدا هذا، فإن الواضح
جدا أن العودة المطروحة في مصر إما لدخول حظيرة السلطة وإما لدخول مصيدتها، ومن لا
يدخل السجن الصغير يدخل بقدميه إلى السجن الكبير. لهذا أتذكر نهاية فيلم "لا
وقت للحب"، عندما يوجه الأطفال تحذيرهم للفدائي العائد إلى الحي الشعبي في
بورسعيد، بينما قوات الاحتلال تتربص به في كمين داخل الحي، فترتفع أصوات الأغنية
التحذيرية التي تحرض على عدم الدخول:
اوعى البعبع مستنيك/ راح يتغدى ويفطر بيك/ اوعى تخش
العشة يا ديك/ خدها نصيحة من الكتكوت..
(∞)
تصبحون على وطن، وفي المقال
المقبل نواصل الحكايات.
[email protected]