ثلاثة نواميس تحكم الحياة

كلُّ النواميس التي تحكم الحياة نواميس إلهيَّة ماضية، لا تتخلَّف ولا تُحابي، ولا تتغيَّر ولا تتبدَّل؛ فقد قضى الله عليها بالسريان إلى يوم يرث الأرض ومن عليها. وإذا كان من أوليات الاعتقاد الإسلامي؛ الإيمان بأن المدبر سبحانه وتعالى قد يخرِقُ نواميس الكون التي أقرَّها على عباده في أية لحظة، ويُمضي قضاءه المقدور بغير واسطة ولا حجاب، ويُنزل من السماء ما يشاء لمن يشاء، بلا سبب ولا تسبُّب؛ فإن إيماننا بطلاقة هذه المقدرة أصلٌ يتفرَّع عنه إيماننا بفعالية النواميس التي أنزلها، والاجتهاد في فهمها عنه، والعمل بمقتضاها استرضاءً له؛ بما أنه جعل العمل بموجبها مفتاح ضبط حركة الإنسان في الوجود، وانسجامها على مراده سبحانه.

بيد أن ثمة نواميس علَّمتنا الخبرة التاريخية أنها لا تُخرَقُ إلا في أحوال جد نادرة، بل ولا يكاد ظاهر الوجود الإنساني وتاريخه المدوَّن يعرف سجلّا لخرقها؛ إذ جعلها الله تعالى أساس استقامة أمر الكون واستمرار تدفُّق الحياة فيه، بحركة تتوازَنُ روافدها ومُعطياتها على مُقتضى مشيئته. هذه "النواميس الكونيَّة" من المركزيَّة بمكان، ومن العموم والشمول والهيمنة، حتى إنها تسري -بإطلاق- على كل أحد؛ المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، والذكر والأنثى، والشاب والشيخ، والمريض والصحيح؛ فكأنها ميزانٌ كوني تنضبطُ به حركة الخلق. ومن بين هذه النواميس ثلاثة على وجه التحديد، تُشكل مُتتالية مترابطة؛ قد أكسبها خالقها مركزيَّة أكبر من غيرها، حتى حُرِمَ من نعمة الرضا بقضائه كل من لا يؤمن بها فتنعكس على حركته.

وأوَّل هذه النواميس هو أن لكل شيء في الوجود ثمناً مُعيناً، وأن ما يُسمَّى بقانون نيوتن الثالث للحركة (لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار، ومضاد في الاتجاه)؛ هو مُجرَّد كشف عن التجسيد البراني/ الفيزيقي لهذا الناموس الشامل. قد يكون الثمن الذي تتكبَّده -في مقابل ما تُريد- طاقة روحيَّة، وقد يكون طاقة ماديَّة. قد يكون إيماناً أو عملاً، حركة جوانية أو برانية، إجهاداً للعقل أو إنهاكاً للقلب. وقد يكون ثروةً أو استنزافاً للموارِد. وقد يكون سلباً منك، وقد يكون إيجاباً في موازينك؛ فإن ذلك كله يتحدَّد بحسب اتجاه المعامَلَة.

ثمة نواميس علَّمتنا الخبرة التاريخية أنها لا تُخرَقُ إلا في أحوال جد نادرة، بل ولا يكاد ظاهر الوجود الإنساني وتاريخه المدوَّن يعرف سجلّا لخرقها؛ إذ جعلها الله تعالى أساس استقامة أمر الكون واستمرار تدفُّق الحياة فيه، بحركة تتوازَنُ روافدها ومُعطياتها على مُقتضى مشيئته. هذه "النواميس الكونيَّة" من المركزيَّة بمكان، ومن العموم والشمول والهيمنة، حتى إنها تسري -بإطلاق- على كل أحد؛

وإن مجرَّد تفكير البشر في إمكان الحصول على شيء في هذه الدنيا بغير ثمن، أو تأفُّفه من أداء الثمن، أو ربما تخوفه منه، لا يعني عدم اكتمال نُضجه الإنساني فحسب؛ وإنما يعني كذلك عدم اكتمال إيمانه بشيء، ولا حتى بالشيء الذي يُريد أن يحصُل عليه بلا ثمن! فإذا كان ما تصبو إليه ثميناً من وجهة نظرك -ماديّا أو روحيّا- فيجب أن توطِّن نفسك على سداد الثمن كاملاً، ومُقدَّماً في بعض الأحيان! وسواء كنت تطلب رضا الله، أو تطلُب العلم، أو الجاه، أو الثروة، أو علو الذِكر، أو حتى تطلُب الفاحشة؛ فإن لكل شيء ثمنا مُعيَّنا، من صحة بدنك وروحك، ومن وقتك ومالك، ومن حياتك الشخصية والاجتماعية.

فإذا كنت تستكثرُ ثمن شيءٍ؛ فخير لك ألا تطلبه، بل أن تُجاهد لتُسقطه من تفكيرك بالكُليَّة، وتصرف عنه نفسك؛ لأنك ستؤدي الثمن رغماً عنك متى ما تعلَّق البصر به وانشغل القلبُ بصورته. وإن رضا المؤمن بأداء ثمن ما يطلُب طواعية، هو ما يفتح الله به باب البركة والحفظ والسداد. أما الكافر، فإن رضاه بثمن منفعته؛ يفتح الله به باب نماءٍ في أسباب الدنيا دون بركة رضاه.

وقد يحسبُ بعض السذج أن بوسعهم الحصول على ما يُريدون، والتحايُل على النواميس التاريخية التي جبلها الله على القهر الشامل؛ فتطمئن نفوسهم لأنهم قد حصَّلوا بعض ما يرغبون، ولم يدفعوا له ثمناً بعد! بل قد يُزين لهم الغباء أنهم تفلَّتوا من يد القدر وقهره، حتى يتنزَّل فوق رؤوسهم بما قضاه الله ثمناً لما حصَّلوه.

أما ثاني هذه النواميس، الذي يرتبط بسابقه أوثق ارتباط؛ فهو أنه ما من حال يدوم، أيّاً كان. فإن كل عُسرٍ يعقُبه يُسر، كما أن كل يُسرٍ سيعقُبه عُسر، مهما طال الزمن. فصار هذا التبدُّل -في جوهره- كأنه عمليَّة أداء لثمن النعمة التي تُحصِّلها في مرة، وقبضٌ لثمن البليَّة التي تُصيبُك في أخرى؛ أي صار هذا الناموس تكملة لسابقه، وتوكيداً له، واستمراراً لصيرورته الإلهية الماضية. واطرادُ هذا الناموس في حياتنا اليومية أجلى من سابقه، خصوصاً على مستوى تفاصيل الحياة الصغيرة.

والمتأمل في مسيرة الإنسان، يجد أنه قد يسيرُ في اتجاهين مُتضادين ربما بغير وعي؛ فحيناً يسيرُ مُستقبلاً ما يُيسر الله به أمره، ويَعمَى حيناً آخر عن "مصلحته"؛ فكأنه مُسيَّر في الاتجاه العكسي. هذا الانقلاب "الطبيعي" في وجهة السير، يحكمهُ ازدياد الإيمان ونُقصانه بالعمل؛ ليجري من خلاله التقدير الإلهي الأزلي. صحيح أننا قد نقصد -بوعينا وإرادتنا- وجهة واحدة، نرى فيها تحقُّقاً لما نُريد، بيد أن الإثم ونُقصان الإيمان ينتكس بنا -بغير وعي- ويرُدنا إلى وجهة عكسية يتدهور بها حالنا. وهذه هي القاعدة التي يُثبتها الاستثناء في شدة ابتلاء الأنبياء والأولياء، رغم استقامتهم التي تفوق مقدرتنا على الإدراك أصلاً! ورُبَّ سائلٍ عن كيفية عمل هذا الناموس مع الكافر، الذي لا يؤمن أصلاً؛ فنقول: إن الإيمان بالله يُحِلُّ الكافر محله إيماناً كاملاً بالأسباب وتوجُّهاً إليها وأخذاً بها، وبه يُرزَق. أما المؤمن؛ فلا يُرزق إلا إن صحَّ أخذه للأسباب بوصفها طاعة لله.

المتأمل في مسيرة الإنسان، يجد أنه قد يسيرُ في اتجاهين مُتضادين ربما بغير وعي؛ فحيناً يسيرُ مُستقبلاً ما يُيسر الله به أمره، ويَعمَى حيناً آخر عن "مصلحته"؛ فكأنه مُسيَّر في الاتجاه العكسي. هذا الانقلاب "الطبيعي" في وجهة السير، يحكمهُ ازدياد الإيمان ونُقصانه بالعمل؛ ليجري من خلاله التقدير الإلهي الأزلي

لهذا، وجب أن يكون السعي تجاه ما ترغب إليه وفيه؛ فراراً واعياً كذلك مما ترفُضه وتأباه. فإن هذا الوعي يُخفف بحضوره مقدار انتكاسة "الإنسان العادي" إلى حال العُسر، ويقصر عليه زمان ابتلائه بحول الله. ومن ذلك، أن يكون السعي إلى الجنَّة فراراً واعياً من النار؛ تحقُّقاً بجوهر النظام الديني، إذ يُملأ الفراغ الذي يخلفه السالك وراءه بشيءٍ من الخوف الصحي المُعيق؛ خوف الارتداد إلى الكفر، وخوف الانتهاء إلى النار. فإن لم تخلُف هذا الخوف وراءك في السير إليه، ليُحسن كفاءة يُسرك، ويُطيل أمد استقامتك؛ فسيعترض طريقك ويعوق سلوكك إليه. لهذا، كان السالك الصادق مُفعماً بالحب دون غيره، لا لأنه لا يخشى مقام ربه العلي سبحانه وتعالى، وإنما لأنه خلَّف هذا الخوف وراءه، فلم يعُد يرى إلا وجهه تعالى، وقد تجلَّى سبحانه عليه بصفات الجمال ليزيده إقبالاً. مثل هذا الولي قد عرف أن آلام مُجازفة السلوك والسعي (وربما الإخفاق) لا تُقارَن بخطورة القعود والتخلُّف (والانتكاس إلى النار)، فالخوف من ورائه؛ يدفعه على الطريق ولا يُعيقه.

وثمَّة حادثه مركزيَّة في تاريخ الإنسانية المؤمنة، تُرسخ هذا الناموس، لا بوصفه استكمالاً لسابقه فحسب، وإنما بوصفه تمهيداً كذلك للناموس الأخير في هذه المتتالية. إذ بقدر كل نعمة يكون الابتلاء، سابقاً وربما لاحقاً، وبقدر ما تنال يكون الثمن. وقد كانت مُقدِّمة النعمة المعجزة، التي أنعمها الله تعالى على السيدة مريم ابنة عمران إذ ولدت المسيح عليه السلام؛ هي ابتلاء مُهين مؤلم في عِرضها، ابتلاءٌ لا تُطيقه "امرأة عادية"، فما بالك براهبة عابدة بتول من خيار نساء العالمين! وهذا نموذج كاشف عن هذه المتتالية من النواميس الكونية، في إحدى ذُرى تحقُّقها.

لقد انبثق النور الإلهي من هذا الامتحان القاسي لا بولادة المسيح المعجزة، وبره بأمه ونبوَّته فحسب، وإنما استنار تاريخ الإنسانية المؤمنة بمريم البتول نفسها؛ إذ صارَت مثلاً وقدوة، وصارت سيرتها الطاهرة سكناً وشفاءً لملايين البريئات العفيفات، اللائي امتُحِنَّ بشيءٍ من هذا. إذ ترسَّخ بمثل هذا النموذج الرباني أن بعض الفردوس الحقيقي، في ظلِّ الخُسر الدنيوي المحتوم؛ هو أن تصير سيرتك ومسيرتك صدقة جارية لغيرك، أن يصير صبرك على البلايا، والشكر في المنع مثل العطاء؛ هادياً وحادياً لغيرك، و"لمثل هذا فليعمل العاملون".

هذه المتتالية الإلهية من النواميس المركزية، تُرسخ مبدأ واحداً مُشتركاً في الوجود؛ وهو مبدأ الحركة بوصفها نقيضاً للسكون والاستقرار الذي يتوهَّم فيه بنو آدم نِعَماً، وهو إلى النقمة أقرب

وقد نقلتنا سيرة العذراء -سلام الله عليها وعلى ابنها- إلى الناموس الثالث، الذي تُستكمل به هذه المتتالية؛ وهو "إن الإنسان لفي خُسر". خُسرٌ دائم قاهر محتوم، لا مفر منه؛ خُسر براني كلي مؤكد، وخُسر جواني بقدر. فنحن نخسر كل يوم خسارة برانية مطردة، في الصحة والشباب والقُدرة. وقد نخسر خسارة جوانية تطرد بذات القدر وبالسرعة نفسها، إذا لم نَستَعِنْ بالترياق الذي عيَّنته سورة العصر: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر". فقد استُثني هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات وحدهم؛ إذ يُنجيهم الله من تفاقُم الخُسر الجواني، ومن بعض التبعات الجوانية للخُسر البراني. بل قد يُجبَر خُسرهم برحمته، وتسكُن نفوسهم بالاطمئنان إليه؛ إذ آمنوا به وعملوا الصالحات استرضاء له، ثم تعدَّاهم أثر هذا الإيمان إلى من حولهم -معونة على التكليف- ليتواصوا بالحق الذي أنزله الله وتعبَّد به الخلق، ويتواصوا بالصبر على نُقصان هذا الحق -في الوجود وفي سلوك الخلق- فيصطبرُ بتواصيهم من لم يجعل الله له عوناً في نفسه.

صحيح أن مقدرتنا الفطريَّة على التجاوز (وهو لُب الإيمان) تُصقَل بالكبد وله، وقد جعل الله من آثار مركزية اليوم الآخر؛ ألا ينحرف هذا الكبد إلى التشاؤم والعدم، وإنما يؤدي إلى اكتشاف الصلة مع الله، والرجوع إليه جُزئيّا في الدنيا لنستطيع تجاوز آلام الكبد بمعيته، وتحمُّل مشاق رحلة الرجوع إليه بنوره؛ فإن التواصي يلعب دوراً تكاد أهميته تُقارِبُ أهمية دور الإيمان نفسه. فهو معونة الله على إتيان الحق، ومعونته على التمسُّك به، تجاوزاً للواقع بمكابدته لا بالانفصال عنه.

هذه المتتالية الإلهية من النواميس المركزية، تُرسخ مبدأ واحداً مُشتركاً في الوجود؛ وهو مبدأ الحركة بوصفها نقيضاً للسكون والاستقرار الذي يتوهَّم فيه بنو آدم نِعَماً، وهو إلى النقمة أقرب. فإن تحصيل زاد الآخرة من الدنيا حركة، وأداء ثمن هذا الزاد حركة، وتقلُّب الأحوال بك ومكابدتك لهذا التقلُّب في كل لمحة حركة، ومقاومة روحك لتبعات الخُسر حركة. كلها حركة تبدأ من وجدانك، حتى تخرج بك إلى الوجود. وإن طلبك الاستقرار والسكون والراحة لا ينتقص فحسب من إنسانيتك، بل إنه ثلمة عظيمة في إيمانك. وهذا ما سنفصله لك في مقالنا القادم بحول الله تعالى.

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry